الأربعاء 2018/03/14

آخر تحديث: 18:20 (بيروت)

ستيفن هوكينغ إذ تحدّى ديكارت وهايدغر.. وجدّد الفلسفة الأولى

الأربعاء 2018/03/14
ستيفن هوكينغ إذ تحدّى ديكارت وهايدغر.. وجدّد الفلسفة الأولى
increase حجم الخط decrease

ربما لم يخطر في عقل عالم الفيزياء ستيفن هوكينغ (رحل اليوم عن 74 عاماً)، الذي لم يُقارن إلا بأدمغة صناع مسار العِلم في مشروع الحداثة الغربي الكبير، خصوصاً آينشتاين ونيوتن، أن تفلتاته الفكريّة تحمل تحديّاً لفسلفة الحداثة - بل ما بعدها - من رينيه ديكارت إلى مارتن هايدغر، وأنها تخاطب الفلسفة الأولى التي ظهرت في اليونان على أيدي سقراط وأفلاطون وأرسطو وبارامنديس وغيرهم.

في تعليق طريف في كتابه عن سيرته الذاتية بعنوان "موجز عن تاريخي" (2013)، أشار هوكينغ إلى أن شهرته تعود "بصورة جزئية إلى أن العلماء، باستثناء آينشتاين، لا يصلحون ليكونوا على غرار نجوم الروك آند رول... وجزئياً لأني أتوافق مع الخيال النمطي عن العبقري المُقعَد". وإضافة إلى التواضع، تحمل تلك الكلمات مؤشراً على أنّ العلماء لم يفلحوا في الوصول إلى ثقافة المتلقي- المتفاعل الصاعدة منذ بداية الألفية الثالثة.

إذاً، كيف يكون عالِم لم يضع كتاباً في الفكر أو الفلسفة، على مستوى القول بأنه تحدٍ لمسار فلسفة الحداثة وما بعدها؟ الأرجح أن المسألة الأساسية تأتي من التفكير في العلاقة بين العلوم والفلسفة (مع التشديد على الصيغ الأساسية الكبرى للفلسفة)، وصولاً إلى وضع تلك العلاقة حاضراً.

وعبر تلك الآفاق، من المستطاع الحوار فكرياً وثقافياً مع وجهات نظر هوكينغ، بالأحرى تفلتاته التأملية بخصوص موضوعات كبرى تلامس الفلسفة (خصوصاً، الكون والزمن والخالق) عبر العودة إلى كتابين له هما: "موجز تاريخ الزمان" (1988) و"المُخطّط العظيم" (2010).

الفلسفة الأولى: الخالق أولاً
لنبدأ من الفلسفة. في قول مكثف وموجز، يمكن القول أن الفلسفة الأولى انشغلت كليّاً بالموضوعات المتصلة بمسألة الكون والخالق. هل الكون أزلي وأبدي، ما يشار إليه فلسفياً بأنه قديم؟ هل هو مخلوق، فيكون حديثاً، أي انه جاء من خالق يكون هو القديم؟ كيف تكون العلاقة بين الخالق القديم، والكون الحديث/المُحدَث؟ وإذا وُصِف الخالق بـ"العقل الأول"، وفق تعبير أرسطو، فكيف تكون علاقته مع ما خلقه، خصوصاً الإنسان وعقله وروحه؟ هل هناك عقول تتوسط بين "العقل الأول" وعقل الإنسان؟ كيف يتغير الكون، وما هي علاقته بالقديم الذي خلقه؟ كيف يسير الزمان؟ كيف تكون الحركة في الكون، وما هي علاقتها بـ"المحرك الأول" (بالتعبير الأرسطي ايضاً) الذي يحرك كل شيء ولا يحركه شيء سواه؟ هل تنتهي الحركة؟ هل المادة قابلة للفناء والانتهاء، أم أنها تدوم إلى ما لانهاية؟

باختصار، دارت فلسفة اليونان الأولى حول الخالق، وبالتالي كان الكون هو محور تأملها الأول. واستطراداً، لم تُجدِ الفلسفة الأولى في التعامل مع الأديان، بل تبنت الكنيسة فكر أرسطو مرجعاً. وكذلك، أعجب مفكرون مسلمون بالفلسفة الأولى (لأسباب لا حصر لها، بما فيها السعي للاستناد إلى المنطق وبراهينه في الاشتغال على الفقه)، ولعل أبرزهم إبن رشد. وسارت في تاريخ الإسلام مقولات عن "الطريقين"، بمعنى الإيمان من طريق الدين كطريق أول، أو الفلسفة والعلم كطريق ثانٍ، وهو ما يكثفه كتاب إبن رشد المعروف "فصل المقال، وتبيان ما بين الحكمة والشريعة من اتصال".

كانت العلاقة بين العلم والفلسفة (وتالياً الدين) أمراً مندرجاً في ثنايا تلك الصورة. في الفلسفة الأولى، كانت العلوم جزءاً من الفلسفة، على غرار ما يظهر في أعمال أرسطو (خصوصاً الفيزياء والطب) وأفلاطون (خصوصاً الرياضيات). تميزت تلك الفلسفة بأنها شاملة (أحياناً، توصف بأنها عامودية)، بمعنى انها تستند إلى مبادئ أولى يجري البرهان عليها، ثم تستعمل في تفسير الأشياء كلها. في فلسفة أرسطو، هناك "العقل الأول" و"المحرك الأول"، وهناك العناصر الأربعة التي تفسر تكوين الأشياء كلها، بما فيها "الأخلاط" في جسم الانسان. في ذلك المعنى، يجري الحديث عن اندماج العلم والفلسفة.

مع ديكارت، حدثت نقلة كبرى. تركت الفلسفة الكون وخالقه الذي سلَّم ديكارت بأنه يمكن البرهان على وجوده منطقياً ودينياً، لتركز على الإنسان، بداية من الكوجيتو/المعرفي الديكارتي "أنا أفكر، إذاً أنا موجود". حدث انفصال بين العلم والفلسفة، لكن بمعنى عقلاني وحداثي، بمعنى استناد الفلسفة إلى العلم في البرهنة على مقولاتها ومطارحاتها. بقول آخر، ظهرت فلسفة إنسانية ترى "مبررها" في العِلم، وكان ذلك معنى قوياً في الحداثة. مع قوانين إسحاق نيوتن، ظهرت نظريات تستند إليها في تفسير التاريخ والمجتمع والانسان، بأكثر من اهتمامها بالتفكير مباشرة في الخالق. عند تلك النقطة، كانت الحتمية هي التهديد الفكري، بمعنى إدعاء قوة العِلم إلى حد تحويله إلى مطلق، ثم استعماله في صوغ نظريات شاملة تفسر كل شيء، ليس بالخالق و"العقل الأول"، بل بالعِلم. الأرجح أن الماركسية وحتمتيها التاريخية هي المثال الأوضح، لكن معظم نظريات الفلسفة في الحداثة استندت إلى حتمية تحتمي بالعلم الإنساني. ثم صارت الفلسفة تعنى بطرق التفكير ومناهجه، وابتعد العلم إلى مسار التخصص.

سقوط الحتمية، لكن ما البديل؟
في ما بعد الحداثة، سقطت الحتمية كمقولة وتفكير. لم يعد أحد يدعي نظرية تستطيع أن تفسر كل شيء، ثم يقرها كفلسفة كبرى في النظر إلى الكون أيضاً. جاء هايدغر ليقول إن الحداثة لم تفعل سوى استبدال الخالق بالإنسان، بمعنى أنها تشبه الميتافيزيقا الدينية في المدى الشامل لتفكيرها، وتدعي القدرة على تفسير الكون والإنسان والتاريخ والزمن، إنطلاقاً من العقل الإنساني الذي صار "بديلاً" للدين. ورفض هايدغر ذلك المنحى الحتمي- الميتافيزيقي- الشمولي في الحداثة، مع تشديد على هجران النظريات "العامودية". المفارقة أنه عاد مرة أخرى إلى أرسطو، بل إن كتابه الأشهر "الزمن والكائن" يكاد يكون عودة إلى مقاربات الفلسفة الأولى، لكنه إنساني كلياً. ورأى أن العِلم هو تفاعل بين العقل الإنساني والكون الذي تكمن فيه قوانينه، فيكون اكتشافها استجابة لها، بمعنى أنها تستحثه على اكتشافها!

عبر ذلك القوس الواسع، نصل إلى ستيفن هوكينغ.
اشتهر بأنه ملحد، لا يؤمن بخالق. واشتغل على نظرية "الانفجار الكبير" (Big Bang) التي ساهم شيوعها في دعم ثقافة "جماهيرية" معاصرة تعود إلى الاهتمام بالدين بصورة متصاعدة. في نظرية "الانفجار"، الكون ليس قديماً (وهو ما قالته فلسفات حداثية كثيرة)، بل هو حديث/ مُحدَث. وتستدعي صورة لحظة الخلق، ما دفع كُثُر إلى التفكير في وجود خالق. لم يؤمن هوكينغ بذلك، مقابل اعتقاده بأن تلك اللحظة ربما لها مرادافات مشابهة لها، فتكون هناك "أكوان متعددة"، لا كون واحد. وكذلك فكر في الزمان. ورفض الزمان الأرسطي- النيوتني الذي يسير من الأزل إلى الأبد كنهر زجاج يتدفق باتجاه واحد. لاحظ هوكينغ أن آينشتاين أسقط الحتمية التي صعدت مع قوانين الفيزياء الميكانيكية لنيوتن، إلى حد أن الزمان الآينشتايني هو نسبي، يعتمد على موضع المراقب وسرعته، ما يعني انهياراً لمفهوم الحتمية في الزمان.

وتبنى هوكينغ مفهوم الزمن الكمومي، الذي "يشبه السحر" (وفق كلمات هوكينغ)، لأن الماضي والحاضر والمستقبل متخالط فيه إلى حد أن الحديث عن حدود بينها يغدو غير ذي دلالة. إلى حد كبير، يشبه الزمن الكمومي، الأساطير والميتافيزيقا، وكذلك ساهم رواج خيال الزمان الكمومي (خصوصاً في السينما والتلفزيون)، في تدعيم اهتمام ثقافة الجمهور- المتلقي- المتفاعل، بالزمن في أشكاله المستحضرة في الأديان أيضاً.

في تلك الصورة من التخالط، أصابت بلبلة كبيرة تأملات هوكينغ. إذ لم يستطع التوصل إلى نظرية لكل شيء (حتى مع المجازفة بأنها تحمل مفهوم الحتمية)، وهو ما توخاه في محاولة التوفيق بين نسبية آينشتاين والنظرية الكمومية. ويحمل ذلك في طياته إخفاقاً في تحقيق حلم حداثي بالوصول إلى نظرية إنسانية كبرى في تفسير الكون والخلق والزمان.

وفي كتابه "المخطط العظيم"، أقر هوكينغ أيضاً بأن تعقيد قوانين الكون وصعوبة اكتشافها، يشير إلى وجود "ذكاء أعلى" مما يعرفه الإنسان، هو الذي وضع قوانين الكون، وسكبها في مخطط ما زال عقل الإنسان يعمل على تفسير مكوناته وقوانين ومساراته وألغازه. ولعل مسار هوكينغ، بين الإخفاق في صوغ نظرية إنسانية شاملة، وحيرته أمام "المخطط العظيم" للكون وقوانينه، يصلح دليلاً على غياب الفلسفة المعاصرة عن الاشتغال بالموضوعات الكبرى للفلسفة الأولى، ولعله علة أصيلة لغيابها عن الثقافة الواسعة واليومية للناس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها