الثلاثاء 2018/02/06

آخر تحديث: 10:07 (بيروت)

صنع الله إبراهيم.. للرفض تلك الرائحة

الثلاثاء 2018/02/06
صنع الله إبراهيم.. للرفض تلك الرائحة
يرسّخ وجود صنع الله إبراهيم بين أبناء جيله جدلية مستمرة
increase حجم الخط decrease
1
"في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرد الآلاف وتنفذ بدقة منهجية واضحة خطة لإبادة الشعب الفلسطيني، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان. وعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة. وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأميركي حيًا بأكمله من العاصمة بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربيًا".

الكلمات السابقة، من دون مبالغة، لن تخطئها عين مثقف مصري، وإذا حدث وأخطأتها لحداثة عمر صاحبها، لن يحتاج سوى وضع أحد سطورها في "غوغل" وستظهر مصحوبة باسم الروائي المصري صنع الله إبراهيم. قالها قبل حوالي 15 عامًا وسط نحو 200 كاتب عربي معلنًا رفضه جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية من "سُلطة تعمل على قمع الشعب المصري وترهن سياستها الخارجية بإسرائيل وتقبل بوجود السفير الإسرائيلي رغم كل الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني من قمع وسفك للدماء".

منذ ذلك اليوم، الذي رفض فيه جائزة الدولة، صار صنع الله أيقونة أدباء الرفض والمعارضة السياسية، والمقابل الواضح لأدباء السُلطة ومدلكي الرؤساء. غير أن مرور سنين طويلة يرفع الحرج، ويسمح بالحكي صراحة حول ما دار بين المهتمين داخل الغرف المُغلقة وفي المقاهي والبارات. ذلك أن الحكاية كانت مربكة لكثيرين.

بعدما ضجت القاعة بالتصفيق، وتضامن مع صنع الله كثيرون من بينهم بعض أعضاء لجنة تحكيم الجائزة، شهدت هواتف الكُتّاب أحاديث جانبية محتارة. لا أقصد طبعًا هؤلاء الُكتاب الذين يحبون الحكومة. أتحدث عن آخرين ليسوا محسوبين على الدولة. كثيرون منهم تهامسوا بعبارات لم تُحب طريقة صنع الله في رفض الجائزة، معتبرين أن فيها لمحة من "شو" إعلامي، حيث أوحى الرجل لمهندس الثقافة الرسمية وقتها جابر عصفور، حينما أخبره بالفوز هاتفيًا بأنه يقبل الجائزة، ليقرأ كلماته تحت أضواء الكاميرات.

العلاقة بين الأدباء وبعضهم البعض من أبناء الجيل الواحد أو الأجيال المتقاربة، تحتمل بعض الأمور الإنسانية غير المتجردة وربما غير الموضوعية. بينما يظل التاريخ حكمًا موضوعيًا في المواقف الجدالية. بصراحة، لا أرى منطقًا في استياء البعض من طريقة صنع الله، ورغبته في إحراج النظام إعلاميًا. موقف يتسق مع طبيعة كاتب مرت عليه السنين من دون تغيير.

2
اختلفتُ واختلف كثير منّا مع بعض المواقف الحديثة لصنع الله، لكن هذه المواقف، والجميع متأكد، تظل في منطقة القناعة الشخصية، وليست بدافع الرياء أو رغبة الاستفادة.
في أعقاب أحداث 30 يونيو، فاجأ صنع الله محبيه بتأييد السيسي عند وصوله لرئاسة الدولة، كما فاجأهم بهجوم عنيف على محمد البرادعي بكل حصانته الثورية التي تلاشت رويدًا بعد انسحابه من المشهد في لحظة صعبة. صنع الله لم يهاجمه لانسحابه، ولكن قال كلامًا شهيرًا كرره متهمًا إياه بالعمالة لمنظمات أميركية. أخذتُ وأخذ غيري على الكاتب المعروف حديثه، نحن الذين انزعجوا من أداء البرادعي سياسيًا لا يستسهلون تخوين الناس بين ليل ونهار. وفي حوارات ساخنة بين الأصدقاء من الذين تركت فيهم ثورة يناير جروحا لا تندمل، حسم أحدهم الأمر بأن "صنع الله رصيده لدينا يسمح، نحن نعرف أنه ليس انتهازيًا ولو اختلفنا معه في موقف". عبارة الصديق الشاب هي بالضبط ما يُمثل فصل التاريخ في تقييمه للسابقين.

وبعيدًا من الاتفاق والاختلاف مع المواقف السياسية، يرسّخ وجود صنع الله إبراهيم بين أبناء جيله جدلية مستمرة وخلاف تاريخي حول دور المبدع وتورطه في الشأن العام والسياسي، في مقابل فكرة تكرّس لحفاظ المبدع على مسافة من هذا التورط، ليأتي بأدب غير مباشر، يهتم بسؤال الإنسان في أشكال أكثر فنية. هي جدلية بعمر الكتابة، ولكن في الأخير، أنت من الصعب أن تذكر اسم صنع الله إلا مصحوبًا بالكاتب الكبير، والاعتراف بأن الرجل، الذي سجّل يومياته في السجن على ورق لفّ السجائر، هو التجلي المعاصر للمثقف العضوي، المتجاوز للثمانين من دون أن يكون عليه فواتير لأحد.

3
الأحد الماضي، وبعد سنوات من رفضه جائزة الدولة، وافق صنع الله على تسلّم صنع الله جائزة أخرى، عنونها المنظمون بـ"جائزة الشعب". يحكي الأصدقاء أن المسألة بدأت بمبادرة على "فايسبوك" من الروائي المصري رؤوف مسعد، استجاب لها عدد من الشخصيات العامة والجمعيات الأهلية، وتبنّاها اتحاد كتاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية بالتعاون مع جمعية «أصدقاء أحمد بهاء الدين» ومجموعة من محبي صنع الله إبراهيم برئاسة الطبيب والسياسي المعروف محمد أبو الغار. قال الكاتب المصري محمد سلماوي رئيس الاتحاد إنها توازي أكبر جوائز الدولة ماليًا وإن لم يذكر قيمتها المالية. واحتشدت قاعة النيل للآباء الفرانسيسكان، وسط القاهرة، بحضور نوعي للأدباء والسينمائيين والسياسيين في حالة بهجة بدت صادقة. تهامس كثيرون فيما بينهم حول أن الرجل يستحق شيئًا من الاحتفاء بعد هذا العمر من الصمود على الموقف، وأن هذه جائزة يقدمها مُحبين وقُراء. بينما يأمل المشرفون عليها أن تصير حدثًا سنويًا لتكريم أحدهم. على أي حال، كانت مناسبة للكلام عن صاحب "تلك الرائحة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها