الأحد 2018/02/18

آخر تحديث: 11:50 (بيروت)

"فيليسيتيه".. مباهج وأحزان في ليل كينشاسا

الأحد 2018/02/18
"فيليسيتيه".. مباهج وأحزان في ليل كينشاسا
ثيمة نقص المال المفاجئ تفتح الطريق أمام الفيلم لتقديم نوع من النقد الاجتماعي.
increase حجم الخط decrease

 

ثمة ثيمة مألوفة في فيلم "فيليسيتيه"(*)للمخرج الفرنسي السنغالي آلان غوميس، تستدعيها حكايته حول امرأة مستقلة، يحمل الفيلم اسمها (تقوم بدورها فيرو تشاندا بيا موبوتو)، الذي يعني البهجة بالفرنسية، تعمل كمغنية في إحدى حانات كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية، تنقلب حياتها مع تعرض ابنها المراهق لحادث دراجة نارية، ثم تسعى بكل الوسائل بحثاًعن المال اللازم لعلاجه. هي ثيمة نقص المال المفاجئ التي تفتح الطريق أمام الفيلم لتقديم نوع من النقد الاجتماعي. شاهدنا ذلك من أول "سارقو الدراجة" لرائد الواقعية الإيطالية فيتوريو دي سيكا وحتى حكايات أبطال الأخوين داردان حول الطبقة العاملة وهمومها، ولكن "فيليسيتيه" في الأثناء يقدّم بورتريهاً نادراً ورقيقاً لرتابة الحياة اليومية ومتعها المسروقة في العاصمة كينشاسا، مصحوباً بتلميحات سياسية تتوه بين ثنايا الغبار الذي يعبّئ سماء كينشاسا وفوضى السائرين فيها.

لكن قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه بين أفريقيا وأوروبا تاريخ من التعاون السينمائي يظل التعامل معه بحذر واجباً، لأن الغالب على نتاج هذا التعاون عبارة عن سينما محفوفة بالمخاطر، بلا حراك تقريباً، تتأرجح بين واقعية تستحق التوثيق والإخبار بصدق وحِسّ واعٍ وبين أسلوب سرد يبدو دائماً كأنه هبط من السماء. المثال الأقرب عربياً لذلك هو أفلام يوسف شاهين، خصوصاً الأخيرة منها، التي ينعتها البعض بألغاز سينمائية مطبوخة للاستهلاك الأوروبي رغم تورّطها كلية في واقع وتاريخ وشخصيات وقضايا عربية.

مخرج فرنسي من أصل سنغالي، يؤلف وينجز فيلماً تدور أحداثه في الكونغو، بتمويل غالبيته فرنسي. معادلة تبدو مألوفة لأفلام تتلقفها المهرجانات وتحتفي بها أقلام غربية للدلالة على نظرة إنسانية عالمية تشملها سينما قادمة من بلاد المستعمرات القديمة. لكن من المجحف اختزال "فيليسيته" ضمن هذا الإطار حصراً، لما يحتويه من جماليات، وإن شابها إرباك في بعض المناطق، ترفد حكاية الفيلم -التقليدية للغاية- بثقل بصري وسردي يٌنفذ إياها إلى أبعاد سياسية واجتماعية تجعل قراءة الفيلم فعلاً مستمر الحدوث، تتفاوت، عبره ووفقاً لانحيازات كل قراءة، قيمة الفيلم وحجم منجزه وتأثيره.


دشّن آلان غوميس بصمته السينمائية عبر أفلامه الثلاثة الأولى "لا فرانس" (2001) و"أندلسية" (2007) و"أوجوردوي" (2012)، بسرديات شاعرية متماسكة لافتة ونبرة حزينة لا تخطئها عين. ومع فيلمه الأخير "فيليستيه"، ينزل غوميس إلى عالم النساء المكافحات في بلاد منهكة بالصراعات السياسية وندرة الفرص. سينما غامرة بصورها وفوضى سياقاتها وعبث أقدار حكاياتها والشجن المنفلت من بين ثنايا لحظات تمرق كالنسيم في حياة شخصياتها التي يبدو حتمياً عليها اختبار شقاء أبدي. مع ذلك، لا يزال بالإمكان التعرّف على بصمة الإنتاج الأوروبي المشترك القادر على إنهاء الفيلم بالطريقة المتوقعة في مثل تلك الحالات. في متواليات مختلفة من "فيليسيتيه"، تحضر أصداء سينما الأخوين داردان، والظل العالي لمزجهما المتأني والمتمهل الدواخل الذاتية لشخصياتهما بالشأن العام، والاهتمام بالسرد الانفعالي ضمن إطار الواقعية؛ لكن لا مفر أيضاً من استدعاء فكرة الاستعمار الثقافي مرة أخرى، والمجاهرة بأن المسألة معقدة على نطاق واسع، لكنها لا تزال محسومة هنا بفضل اقتراحات درامية تبدو مُستسهَلة وتُخرِج إلى السطح سؤالاً ملّحاً: كيف تحافظ في فيلمك على عناصر الواقعية، من دون تهميش تام لضرورات السرد أو اللجوء إلى المبالغة في ربط عناصر نقيضة مع بعضها؟


إجابة السؤال السابق لن تكون في صالح آلان غوميس، لأن حياة وسوء حظ فيليسيتيه وابنها المسكين، والجار تابو الحيوي والعطوف، ونهر الناس في شوارع كينشاسا، أو حتى تلك الأمثولة الصغيرة المتعلقة بأولئك المتعوسين في وظائفهم ومهنهم رغم امتلاكهم الموهبة والمهارة اللازمة للنجاح؛ تبدو دائماً في الفيلم مرسومة من أجل أهداف أخرى، تبدو مُلاحَظة ومُخبَرة بواسطة راوٍ من خارج تلك الفسيفساء نفسها، أو ربما بواسطة عالم حشرات رؤوف بحال مخبرياته التي يتناولها. الانطباع ذاته بعدم ضبط المزيج المقدم على الشاشة يتواصل بشكل أكبر في الجزء الثاني من الفيلم، الأقل تخطيطاً وصرامة بنائية، مع بعض الفوضى في تسيير الفيلم إلى محطته النهائية، أو أي محطة نهائية مناسبة، موسوماً بالمكون الحلمي الذي ترافق فيه موسيقى كلاسيكية رقيقة للنمساوي آرفو بارت، فيليسيتيه في جولاتها الليلية المشبعة بالضوء الأزرق ولون فستانها الأبيض. أكثر من مرة ينتظر المتفرج نهاية الفيلم، وأكثر من مرة يستطرد الفيلم في حكايته ليطيل مدته دقائق أخرى، حتى أنه في بعض المرات يبدو التطور السردي مبرمجاً ومتكلفاً.


رغم ذلك يظل "فيليسيتيه" مثيراً للاهتمام وجديراً بالمشاهدة ومنطلقاً للمتعة في بعض أحيانه، فبالإضافة إلى المسار والخطاب الذي يتبناه غوميس، يلفت أداء بطلة الفيلم وحيويتها الهائلة، وكذلك شخصية تابو بجسده الضخم المتناسب مع بنية فيليسيتيه القوية، الذي يفرض هجوماً سلمياً مضاداً يقوده إلى أسر قلبها وإيقاعها في حبه. ومن خلال خسارات وتجوالات هذه المرأة الشجاعة والأم المقاتلة، يحاول غوميس مرة أخرى رسم لوحة جصّية جماعية على الشاشة، تنهض في خلفيتها صورة بلد أفريقي ينهشه الفساد والتفسّخ وهروب أمل التغيير. فيليسيتيه هي بطلة رحلة ذاتية لمقاومة مجتمع تخلّى عنها عندما احتاجته لمساندتها في حياتها وفي إكمالها على النحو الذي ترغب، هي رغبة برّية تسعى للنجاة وسط فوضى مدينة لا ترحم، هي بطلة حياة تنكمش فيها كوى الحرية (علاقتها مع تابو، والموسيقى، واستقلالها) ويتطلب إبقاؤها حيّة شيئاً مثل القبض على الجمر. يتقدم "فيليسيتيه" باندفاعاته وتلكؤاته وارتفاعاته وانخفاضاته، وكأن غوميس يقول أنها الطريقة الوحيدة للنجاة في تلك البقعة المجنونة، كينشاسا.

"فيليسيتيه" يمكن اعتباره فيلماً على جزأين، ولكل منهما مميزاته ومتعه التي تناسب فئة دون أخرى من المتفرجين: الأول حيوي وخام يُظهر كل التجارب والمحن والمشاوير التي على الأم قطعها لمساعدة ابنها المصاب، والثاني مرتبك وحافل بالرقص والثرثرة والدخان والغناء وإحساس مدهش بمسامية الفاصل بين الواقع والخيال. رغم هذا الخليط المربك والمعقد، استطاع الفيلم اقتناص الجائزة الكبرى لمهرجان برلين السينمائي 2017، ولكن في الحقيقة ربما كان التتويج الغائب لممثلته الرئيسية (وهذه تقريباً أول مرة لها أمام الكاميرا) فيرو تشاندا بيا موبوتو هو الأكثر استحقاقاً. موبوتو هي قلب هذا الفيلم والسبب الأساسي لمشاهدته، وبعد انتهاء الـ 129 دقيقة (مدة الفيلم) ستبقى كثيراً في ذهن المتفرج.


(*) يُعرض حالياً في سينما متروبوليس أمبير صوفيل (الأشرفية – بيروت)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها