السبت 2018/02/17

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

25 يناير.. الفشل السياسي يعمق الحضور الروائي!

السبت 2018/02/17
25 يناير.. الفشل السياسي يعمق الحضور الروائي!
هل ما زالت صحيحة المقولة بأنه يجب الابتعاد زمنياً عن حدث الثورة للكتابة عنه كما يليق به؟
increase حجم الخط decrease
كلما قلّبت في حصيلة الروايات التي خرجت بها من معرض الكتاب واجهتني الثورة بشكل أو بآخر.


تقفز من بين سطور رواية علاء خالد الجديدة "أشباح بيت هاينريش بل"، الذي يؤمن بطلها بأنه لا مجال للخطأ داخل الخيال، لأنه خطوة في عالم جديد ليست له قواعد أو معايير. الثورة خرجت من هذا المكان المتخيل، لكن المشكلة كما رآها بطل الرواية أنها–على عكس الشائع- جاءت من الجزء العاقل في هذا الحلم أو الخيال، وليس الجانب اليائس فيه. ولكن للأسف هذا الجانب العاقل أيضا لم يكن كافيا ليحدث التغيير "ربما كنا نحتاج لما هو أكبر من الحلم".

"حرنكش" بطلة رواية نائل الطوخي "الخروج من البلاعة" كانت تحلم أيضاً، ووجدت بالفعل ما هو أكبر من الحلم، الواقع نفسه، في لحظة تاريخية هي لحظة الثورة، غرزت قدميها فيه، تورطت في كل ما يصلح أن تتورط فيه. وفي الشوارع الجانبية لميادين الثورة، وعلى وقع هتافات الثوار وحكاياتهم، أعادت اكتشاف العالم ووجدت خلاصها وكتبت قصتها وحاولت أن تخلص العالم من شياطينه. والأهم أنها آمنت بنفسها وعثرت على طريقها ومشت فيه حتى لو غرقت أكثر في البلاعة التي حاولت الخروج منها، مشكلتها فقط أنه أصبح لديها الكثير من الحكايات، وأرادت فرصة ليسمعها أكبر عدد ممكن من الناس "كانت الحكاية تخنقني، ويخنقني كوني غير قادرة على حكيها"، تقول.

وجدتُ الثورة في مجموعة محمد المخزنجي أيضا، وفي رواية بسمة عبد العزيز، وآخرين. الملفت هو حضورها بشخصيتها الحقيقة، إن صح التعبير، كحدث رئيسي بارز ومؤثر، حضور يمكن لمسه، ليست في الخلفية أو متوارية كما في كتابات سابقة.

كثيرون قالوا إن الثورة كحدث بارز ومؤثر لن تظهر في الأعمال الإبداعية –القصصية والروائية بالتحديد- إلا بعد وقت طويل، وأن أمامها سنوات كثيرة حتى تتضح صورتها، حتى يمكن الكتابة عنها.

لكن ذلك لم يحدث مع ثورة يناير، وربما تحتاج تلك الجملة لمراجعة أصلاً. فمنذ الأيام الأولى للثورة وحتى الآن، تظهر الأعمال التي ترصدها وتحللها وتتأملها أو تتمسح فيها، بغض النظر بالطبع عن مستوى هذه الأعمال. لذا كان من الملفت الاختلاف الكبير الذي يظهر الآن في الأعمال الجديدة بعد سبع سنوات على الحدث. كتابة تجنبت الكثير من أخطاء وخطايا "القطفة الأولى" التي تسرعت في جني ثمار لم تنضج بعد. لا حديث هنا عن يوميات وشعارات وأحلام كبرى، بل ربما يأس وبعض السخرية المريرة مما جرى. وبالطبع الكثير من الأسئلة.

لكن السؤال الأهم هو لماذا حدث ذلك الآن؟ هل سبع سنوات فترة كافية لتبني وجهة نظر؟ للحكم على الثورة؟ أم أنه الإقرار بفشل الثورة كمشروع، كنتيجة ومحصلة نهائية؟ أم لأنه حدث مهم وضاغط بغض النظر عن نجاحه أو فشله؟.. أم أن هناك أسباب أخرى؟

هنا شهادات لعدد من الكتّاب المصريين، تحاول الإجابة على السؤال.


علاء خالد: الزمن الشعري للثورات


أثناء أي حدث كبير، مثل الثورات، الانتفاضات، هناك أكثر من زمن ينفجر مع انفجارها، ويسير بحذائها.

أولاً: زمن طويل الأجل وخلاله تُرصد رحلة الأفكار والأحداث والتحولات الكبيرة التي تنضج على مهل، سواء انتصارا أو هزيمة، سواء مع أو ضد التحول المرغوب من الثورة. هذا التفسير والتحليل، والسبر، يحتاج للعديد من السنين ليفك شيفرة هذا الانفجار، ورموزه، ورصد تفاعلاته المتوالية له، كي يتحول في النهاية إلى صيغة أدبية، أو يكون جزءاً، كلا، من بناء درامي ما.

ثانياً: هناك زمن خبريّ، يرصد التحول الآني من دون تدخل فيه: الصور والمعاني الدالة؛ التي تتناثر على سطح الثورة. وهو زمن قابل للتحول والتغيير وإعادة التفسير كلما مضى الزمن وظهرت سياقات جديدة للتفسير بمضي الوقت.

ثالثاً: هناك زمن شعري يربط بين هذا الزمن الآنيّ، أو السطح الخبري المباشر، وبين التفسير العميق والتحليل، والذي يحتاج زمناً طويلاً. لحظة الانفجار نفسها تحمل جزءاً من التحول والتشوف والتنبؤ للمستقبل. أي أن المستقبل يكون كامناً في هذا الزمن الشعري.

يتبدى هذا الزمن الشعري المكثف في أيقونات بلاغية، أو شعارات ذكية، أو التفاتات خارج السياق العام، أو تضحيات فوق العادة، أو أي نموذج مصغر لانفجار بلاغي، مشهدي، عاطفي، نموذج يزيح ثقل هذا الزمن المستقبلي الكامن في الحاضر، ليطفو المعنى، المشهد، على السطح، ويتحول الى أيقونة، تتجاوز الحاضر الآني، كمعنى وكتفسير وكاحتواء.

المستقبل ليس كامناً في المستقبل فحسب، وإلا معنى هذا أن الزمن عبارة عن تنامٍ خطّي، وهذا ما لا أعتبره صحيحاً. هناك وحدات أو نماذج تحوي أزمنة عديدة، تتفاعل وتتجمع بسبب أحداث استثنائية كالثورات أو الأحزان الثقيلة، أو أي شيء له القدرة على فتح تيار الحياة الذي تتدفق فيه الأزمنة والتواريخ والصور والمشاعر، لتكون الأيقونات التي تسم عصر أو فترة ما.

هناك "أيقونة" يتجمع فيها الحاضر والمستقبل والماضي معاً، ويتم الرصد من خلالها، وتتحدد تبعاً لطبيعة رؤية من يكتب وقدرته على اكتشاف ما فيها من آثار للماضي والمستقبل معا.

في روايتي "أشباح بيت هاينريش بل" بحثت عن هذه الأيقونات الشعرية الخالدة، في صورة صور أو معانٍ. تلك الأيقونات المختارة من زمن الثورة تعتبر جزءاً مستقلاً عن أي تفسير صحيح أو خاطئ، ربما تتجاوز الحاضر رغم أنها جزء منه، وربما أيضا تتجاوز الثورة ذاتها.

شيء آخر، هناك دورة صغيرة للزمن، اكتملت خلالها للثورة المصرية. بمعنى أنها طرحت كل أشكال وأوجه تفاعلها، الكامنة في لاوعي المجتمع وفي ظاهره، والتي تكون ثوابته الفكرية: التوحد، التنافر، الانقسام، العنصرية، التسامح، التطرف الديني، التطرف العسكري، وغيره. حتى ولو كان على نموذج مصغر وعلى نطاق ضيق، ولكن هذه هي إمكانيتها.

ربما أي تفاعل مستقبلي كامن للثورة، سيكون جزءاً أو وجهاً من أحد الوجوه الحالية، أو خليطاً بين أكثر من مكون.

شيء آخر.. كيف يتم تجاهل حدث بهذه القوة في مسار أي تحول في بلد ما؟ المشكلة ليست في تناوله، لكن في طريقة شكل تناوله. لأنه حدث قام بالفعل وأحدث شرخاً في النسيج الاجتماعي والنفسي، والقفز عليه أعتقد أنه غير مناسب، وفيه سير من الطرق الخلفية لتفادي الاصطدام والتفسير.

هناك ما قبله وما بعده، حتى ولو كانت تحولاته كامنة في المستقبل، فجزء من هذا التحول المستقبلي كامن الآن وموجود وينتظر الخروج. هناك آثار لن تكشف إلا في المستقبل الجديد الآنيّ، في هذا الزمن المتسارع الذي نعيشه.

ربما تزايد المعلومات الآن وكثافتها وتنوع مصادرها، أحدث تسارعاً في قياس الزمن وبالتالي تسارعاً في قياس وحداته التقليدية: الماضي، الحاضر، المستقبل. التوالي المستمر للأحداث وتراكم المعلومات، كل هذا يبتسر الزمن، ويقربه منك، ويمنحك قوة كشف المستقبل، أو استلهامه في داخلك، أسرع من أي وقت مضى.

 لذا التأريخ لثورة يناير أدبياً، سيتم بوتيرة أسرع من وتيرة التأريخ لثورة 19 أو للثورة الروسية أو غيرهما. وربما هناك رأي آخر سيقول بأن كثرة المعلومات ستحتاج زمناً أطول للتأريخ والتأويل داخل حقل الأدب، وهذا أيضاً صحيح، لكن لو اعتبرنا أنه، في هذا المستقبل، فسحات زمنية تنتظر منا هذا التفسير بطيء التكون، وهذا ربما لن يحدث. غالباً ستكون هناك صفحات تاريخية تقلب بسرعة، وربما تبزغ تصورات جديدة للتأريخ، أكثر انتقائية. أو يكشف التأريخ عن باب جديد له، ينأى به عن التأريخ للثورات، وربما يخرج الثورات والتحولات الكبرى خارج اهتماماته وانشغاله أو تتساوى مع غيرها من الأحداث. فكل شيء وارد، حتى تصورنا للتاريخ نفسه، يمكن أن يتغير.


نائل الطوخي: أي شيء أفضل من الثورة كمسرح للعبث؟

مثل الكثيرين، لفت نظري غياب الثورة كموضوع عن الأدب، وربما عن الدراما أيضا.

كما لفت نظري في الوقت نفسه، وعلى مستوى الواقع، أن الثورة تحولت من حدث سياسي إلى حدث اجتماعي، وتزامن هذا مع توسع استخدام الإنترنت في مصر، ومع توسع النخبة لحدود غير مسبوقة. الكل يتحدث عن الثورة، في المطبخ والحمام والمواصلات. بهذا المعنى لم تعد الثورة ولا شؤونها حكراً على نخبة ضيقة، وإنما امتدت إلى جموع الشعب.

لماذا لم يظهر هذا في الأدب إذن؟ هناك سببان، أولهما الخوف من البطش السياسي، الخوف من نطق أي كلمة قد تثير مشاكل لا نعرفها، وثانيهما هو قلق المبدعين من كون الكلام عن الأمور المباشرة، الاجتماعية والسياسية الضاغطة، من شأنه تعطيل رسالة الأدب، أو إفقاده جزءاً من جماله وخلوده. ويثبت كلامهم أن الكثير من الأعمال الأدبية الصادرة بعد الثورة مباشرة، واتخذت عناوين مضحكة مثل "ترانيم على جدار يناير" أو "شخبطات الـ18 يوم"، كانت أعمالاً رديئة، رديئة لدرجة أنه أمكن تجاهلها تماماً والقطع بأن الثورة لم تظهر من قبل في الأدب.

في 2015 بدأت في كتابة روايتي الأحدث "الخروج من البلاعة". أي أني بدأت بعدما باتت واضحة هزيمة الثورة. لكن قراري، بأن تكون سنوات الثورة، خلفية لأحداث الرواية، لم يكن له علاقة بهذا. في النهاية، حاولت أن أقول كل شيء عن الثورة، كل ما أعرفه عنها، من دون أن ألمّح لموقفي أنا ككاتب منها.

ما كان يهمني أكثر هو موقف الشخصيات. كيف ترى الشخصيات الثورة؟ عادة، أو مؤخراً، مع آخر ثلاثة أعمال لي، تشغلني في الكتابة معضلة كيف أفهم شخصيتي. كيف أدخل في عقلها لأراها من الداخل، وأرتب على هذا كل ردود أفعالها، حتى لو كانت شخصية غبية، بليدة أو حمقاء، رجعية أو متخلفة أو ثقيلة الظل.

أحب طول الوقت أن أضفي شيئاً من الواقع على ما أكتب، هذا جزء من لعبتي السردية للوصول إلى ما هو أبعد من الواقع، وما دمنا نتكلم عن الواقع، وما دمنا نتكلم عن سنوات 2010 وما تلتها في حياة الشخصية الرئيسية للرواية، فلن يمكنني تجاهل الثورة. ستصبح هي الموضوع، أو على الأقل جزءاً كبيراً منه. ما لن أهتم به في هذه الحالة هو موقفي أنا من الثورة. الثورة حدثت، وغيرت حياة الملايين، وهذا أمر واقعي بلا أدنى قدر من الشعارات وعلينا عدم تجاهله. ولو كان الخيط الأساس للرواية هو الصدفة و"عبث الأقدار"، بتعبير نجيب محفوظ، فأي شيء يمكنه أن يكون مسرحاً للعبث أفضل من الثورة؟ في الثورة قد يحدث أي شيء. ولهذا يحبها الناس، ولهذا يخافها الناس.

في القريب العاجل، ستكون الثورة قد اندلعت من عشر سنوات، أي أن علينا أن نتجهز للتعامل معها قريباً كمادة تاريخية.


منصورة عزالدين: الثورة كامنة في كل ما كتبت بعد 2011 

رأيي أن الكتابة عن الثورة، أو أي حدث كبير آخر، تتطلب مسافة، قد تكون هذه المسافة زمانية أو وجدانية. بمعنى إذا استطاع كاتب ما أن ينفصل عن حدث ما حتى في خضم حدوثه، بحيث يحتفظ بمسافة تمكنه من الرؤية الصافية والكتابة المنحازة أولاً وأخيراً لجماليات الفن ومتطلباته، فما المانع؟

المهم العمل نفسه، لا الآراء النظرية المسبقة. غير أن المسافة الوجدانية نادراً ما تتحقق وقت التحولات الكبرى، لأن المعاصرة حجاب كما يقال. أتكلم هنا عن الأعمال الكبرى، لا الأعمال الراغبة في مجرد الرصد وملاحقة مجريات الأحداث. معظم الأعمال المهمة عن حدث كبير أو تحول تاريخي، كتبت بعده بفترة، بل وأحياناً كتبها مؤلفون لم يعاصروه. المشكلة في ما يخص الأعمال عن الثورة المصرية لا تكمن في قلة هذه الأعمال، بل في كثرتها منذ 2011 من دون الاهتمام كثيراً بالفنيات ولا بتقديم الجديد. بدا الأمر كأنه صرعة ما، قد ينبع هذا من نية طيبة تهدف لتوثيق ما حدث ومنع تزييفه، لكن النيات الطيبة لا تكفي وحدها، بل قد تكون عائقاً أمام الفن.


بالنسبة إلى ظهور الثورة كحدث رئيسي مؤخراً في أعمال روائية عديدة، فأظن أن الأمر يرجع لكونها حدثاً من الصعب تجاهله بغض النظر عن نجاحه أو فشله. لم أقرأ بعد الأعمال الصادرة بالتزامن مع معرض القاهرة للكتاب، وإن كنت أتوقع أن يكون بعضها أنضج وأقدر على النظر إلى ما حدث بعين نقدية بعد مرور سنوات سبع، وتغير الحال عن آمال 2011 بدرجة كبيرة.

أما في ما يتعلق بكتابتي، فليس بالضرورة أن تظهر الثورة في أعمالي بشكل مباشر، لكنني أراها (هي والتحولات في المنطقة عموما) كامنة خلف كل ما كتبت بعد 2011 حتى لو لم يظهر هذا بوضوح. أعتقد أنها دفعتني لرؤية ما حولي بعين مختلفة، وشغلتني أكثر بسؤال الكتابة وجدواها ودورها في عالم بالغ التعقيد والعنف كالذي نعيش فيه حالياً.

أنا عن نفسي، أجمل روايات قرأتها عن الحرب لم تكن حقاً عن الحرب، وأفضل روايات قرأتها عن الثورة لم تكن فعليا عن الثورة، وأهم قصص الحب المكتوبة لم تكن قصص حب بالمفهوم الرائج.


محمد عبد النبي: الكتابة ملاذ الجماعات المستضعفة في أعقاب الفظائع التاريخية


أميلُ الآن أكثر إلى ترك الأمور تأخذ إيقاعها الطبيعي. يعني مثلًا لو كان هناك فن من الفنون أقدر على تقديم استجابة سريعة للأحداث الكبرى، فلم لا؟ أو لو كان هناك بعض الكتّاب الذين استطاعوا تقديم تلك الاستجابة، فعلى الرحب والسعة... الشاهد أنَّ لكل فن ولكل فنان، بل ولكل عمل فني أيضًا، إيقاعه الخاص والوقت الذي يلزمه لتأمّل واستيعاب تجربة ما في حياة الشخص أو الجماعة أو البلد، لذلك ليس هناك قانون أو حُكم عام يمكننا أن نقيس به كل التجارب.

من ناحية ثانية إيقاع التغيّر صارَ الآن أسرع من أي وقتٍ مضى، وبالتالي صار حاضرًا بشدة تهديد النسيان وطمس الحقائق وتشويه الوقائع وإعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المنتصرين، وهو ما نلمسه كل يوم في وسائل الإعلام حيث يعمل مقدمو برامج على إنتاج صورة قبيحة لأيام يناير المجيدة. وبما أنَّ الكاتب صوت الهامش أحيانًا، وبما أن الأدب ينحاز إلى الرواية الفردية في مقابل الرواية الرسمية في أحيان أخرى، وبما أنَّ الرد بالكتابة والفن هو ملاذ الجماعات المستضعفة في أعقاب الفظائع التاريخية الجماعية، لذلك كله أجد من الطبيعي تمامًا أن يبدأ المشتغلون بالفن، والسرد خصوصًا، في توجيه أنظارهم واهتمامهم صوب هذا الحدث الجليل، ولا يعني هذا بالضرورة أن ينعكس في أعمالهم كصورة مرآة أو مستندات ووثائق أو خطب حماسية، بل يمكنه أن ينفلت تمامًا من حدود الوثيقة والحنين للأمس، متجهًا إلى مناطق الفانتازيا أو كابوس الجحيم الأرضي الجماعي (أو ما صار يعرف الآن بالدستوبيا).

عن نفسي تراودني أفكار، لكنها مثل سائر الأفكار الجميلة أو الكبيرة، يلزمها بعض الوقت والتكريس والصبر من جانبي، لأنَّ التسرّع في الفن تهلكة.


أشرف العشماوي: كتابة محفوفة بالمخاطر


هناك فرق بين الكتابة حول الثورة وعنها، أنا ممن يؤمنون بأن الكتابة المباشرة عن الثورة ليست كتابة روائية خالصة، بالتأكيد ستشوبها التقريرية، وهو ما رأيته في ما تصفحته من روايات صدرت عن الثورة بصورة مباشرة أو ما تلاها من أحداث. أما الكتابة حول الثورة الآن بجعلها في خلفية الأحداث، فهي في رأيي كتابة محفوفة بالمخاطر، فالثورة لم تحقق أي هدف من أهدافها، وكلنا نعلم ذلك لكنها لم تفشل تماماً، على الأقل نزعت الأقنعة وهذا أمر لو يعلمون عظيم. وما زال أمامنا وقت للتحليل والدراسة والتأمل. فما الذي سأقوله للقارئ وهو يعيش ذلك كله، مثلي ربما أكثر مني؟ حتى الثوار الحقيقيين الذين آمنوا بها، باتوا على وشك الكفر بكل ما فعلوه بسبب إحباطهم من جحود الناس التي كانت تؤيد الثورة في أيامها الأولى ثم انقلبت عليها 180 درجة فجأة. أيضاً، لاحظت مؤخراً أن المتلقي من القراء لا يريد أن يسمع عن الثورة والثوار سوى ما يشبه الأسرار وحكايات النميمة وكأنها كانت نزهة أو حدثاً عابراً، كلنا يعرف بالتفصيل كل ما دار وغالبيتنا شاركت في الحدث ولو بالفرجة، فما الجديد الذي يمكن أن اكتبه في رواية عن الثورة الآن؟

أنا شخصياً رأيت بطولات وسمعت حكايات وقصصاً في الميدان أعظم من مئة رواية وقصة،  وعرفها معي ملايين، صدقني لا جديد في ما يقدم الآن. هل ألجأ إلى الفانتازيا لأثير خيال القارئ وسخريته، لأعتقد بأني نجحت، من طريق نكء جراحه وآلامه على من استشهدوا ومن غرر بهم ومن صدقوا وعوداً كثيرة لم يروا منها شيئا قد تحقق؟ ربما بالكاد يكون ذلك أفضل ألوان الكتابة حالياً، إذا ما كانت هناك ضرورة مُلحّة جداً لدى الكاتب للكتابة عن الثورة ربما بسبب تقدمه في العمر وربما لمواكبة تيار يعتنق أفكاره وربما لأن الفكرة تروق له عن غيرها ولا يجد ما يكتبه بالطبع أنا احترم توجهاتهم واختياراتهم ولو أنني أفضل أن تأتي الكتابة عنها دائما في الخلفية حتى لا يقع في فخ التقريرية مثلما وقع فيه البعض ممن نشروا عن الثورة وأحداثها فصارت الرواية وكأنني أتصفح محرك بحث غوغل بعدما كتبت ثورة يناير 2011!

الحقيقة أنني لا أرى فائدة أدبية الآن من الكتابة المباشرة عن ثورة يناير أو عن أي ثورة. لا بدّ من الابتعاد عن المباشرة، أيضاً ما زال هذا الحدث الجلل يحتاج منا دراسة وتأملاً وتعمقاً وتحليلاً حتى تكون الكتابة الروائية عنه مساوية لقدره، نافذة في عقل القارئ، تجعله يراجع ويعيد قراراته وحساباته وبوصلة اتجاهاته. لست في حاجة إلى تكرار الكلام المعروف عن نجيب محفوظ وكيف تأخرت كتاباته عن ثورة يوليو حتى العام 1966، رغم أن ثورة يوليو كانت قد استقرت قبل ذلك بسنوات، لكنه أراد أن يعطي نفسه وقتاً ومهلة كافية فيخرج بعدها عملاً عظيماً هو "ثرثرة فوق النيل"، يقول فيه إن الثورة في حاجة إلى أخرى تصحح مسارها. أما ما أراه الآن بأن تحكي لي عن الميدان وأحداث مؤلمة في العام التالي للثورة، فهذه أقرب إلى خواطر من وجهة نظري، قد تكون جيدة ومؤثرة، لكنها ليست كتابة روائية ناضجة تليق بالحدث نفسه. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها