ترصد رواية "الست"(*)، العمل الأحدث للكاتبة المصرية سمر نور(**)، قصة امرأة قررت الاستقلال بحياتها بعيدًا من أسرتها، بعدما دخلت العقد الرابع من عمرها ولم تتزوج. غير أنها لا تنشغل برصد العوائق التي واجهتها حتى استقلت، بقدر انشغالها برصد ما بعد انتقالها للعيش في شقة بمفردها، ولا أتحدث هنا عن علاقة مضطربة بينها وبين المجتمع المحيط بها، وإنما عن علاقتها بذاتها وبوحش الوحدة الذي صار عليها أن تواجهه منفردة.
وتحاول الرواية رسم صورة مغايرة عن "استقلال المرأة"، متخطية الانغماس في رصد عوائق بديهية تعرقل ذلك الاستقلال -وإن لم تتجاهلها بشكل مطلق. فالأمر الأكثر إنسانية، وما يصب في صالح استقلال المرأة هو ما تفترضه سمر نور عبر بطلتها من تصالح مع الوحدة. فـ"الوحدةط في الرواية ليست نتاجًا لعرض نفسي أو لتغول التكنولوجيا، وإنما محاولة حثيثة من البطلة لتحقيق فرديتها.
فمنذ استقلال بطلة الرواية، وهي تهجس بالائتناس بالآخرين لتبديد وحدتها، لكن هذا الهاجس لا يلبث أن يتلاشى مع تمكن أم كلثوم من حياتها. فالبطلة، التي وصلت متأخرة إلى محطة «ثومة»، كانت تفضل الاستماع إلى أغنياتها عبر الراديو المنبعث صوته من شباك الجيران، بدلاً من مشغلات الموسيقى الخاصة بها، لما في ذلك من شعور بقرب الآخرين، وإن فصلت بينهم الجدران. لكن عادة الاستماع الجديدة لا تتوقف بانقطاع الجيران عن تشغيلهم المعتاد للراديو، إذ تبدأ البطل أخيرًا الاستماع المباشر للأغاني من خلال وسائطها الموسيقية الشخصية.
يتسم حضور أم كلثوم في الرواية بدلالة أعمق من كونها رمزاً للمرأة القوية. إذ يستحضرها النص –الذي تحتل فيه مساحة هامشية- كامرأة مستقلة مكتفية بذاتها عن غيرها، لكنه لا يصرح بذلك لفظيًا، وإنما عبر ما يوحي به حضورها الأيقوني حيث تحتل الجماعة حيز الهامش فيما تبرز هي دائمًا ككيان مفرد متكامل. لذلك، فإن اختيار الكاتبة لقب "الست"، عنوانًا لروايتها، لا يدل إلى رغبة البطلة في الاستقلال عن أسرتها فحسب، وإنما في الاستقلال عن المجتمع ذاته: "أننا على كل الأحوال سنكون وحدنا، فلا ضامن لأي شيء، وأنني أعد نفسي لحياة الوحدة القادمة وأنا بكامل صحتي. أرغب في التعود على الحياة داخل فراغ يخصني أملؤه بما أحبه".
تعتمد سمر نور في روايتها فصولاً قصيرة، ويمكن التعامل مع كثير منها كقصص قصير مستقلة، وتبدو تلك البنية –غير المتصاعدة دراميًا- متسقة مع عالم النص، فنحن أمام بطلة تعاني الوحدة، وتأتي تلك الفصول القصيرة –غير الدائرية أيضًا- بمثابة تأملات لتلك الأزمة، أو كملهاة تؤنس به البطلة وحدتها التي بات عليه أن تواجهها منذ استقلت عن أسرتها. وفي السياق ذاته، لا تبرز قصة الحب التي تحتل قدرًا لا بأس به من الرواية القصيرة -92 صفحة من القطع المتوسط- غير وسيلة تتأمل من خلالها البطلة حياتها السابقة. لذلك بدا منطقياً أن تحذف الكاتبة تفاصيل تلك القصة مع "الحبيب المجهول" فيما أبقت على حالة الانفصال ومحاولاتها للانعتاق من العلاقة.
لكن ذلك التلهي بـ"العادات" الجديدة بغرض الوَنَس –وباستثناء تعرفها المتأخر على أم كلثوم- تشوب بعض تفاصيله نمطية (استهلاكية) حيث تتعامل مع المطبخ كـ"مملكة" ومع الطبخ كشغف، أو تهتم بإحدى نباتات الظل. ولعل تلك التفاصيل بنمطيتها –وعمومية استهلاكها- تؤثر سلبًا وتفرغ تجربة البطلة من خصوصيتها، خصوصاً أن الرواية لا ترفع أي شعارات صاخبة/عامة عن استقلال المرأة.
تبتعد سمر نور في روايتها، عن تقديم شخصية أنثوية مثالية، ليس فقط بإبراز ضعفها الإنساني، وإنما بإظهار ما قد يعتريها من تناقض قد يجعلها تعادي من هم أضعف/ ألطف منها، إن مثلوا أي تهديد لصفاء عزلتها الشخصية. هي تسعى إلى خلق حالة وحدة مثالية، وتعرقل مسعاها أحيانًا قطة توسخ الحيز أمام باب شقتها. ورغم أن الرواية تبرز تلك المخلوقة كنموذج للاستقلال الأنثوي، إلا أن البطلة –ومع التعاطف الذي تبديه تجاهها- لا تكف عن محاولة طردها من أمام شقتها، وتفعل الأمر نفسه مع الدبابير التي ظنتها نحلًا. وبرغم ذلك كله، لا يمكن، من خلال الفرضية ذاتها، تفسير التناقض الذي يعتري بعض الصور المجازية في الرواية، إلا أن تكون اللغة قد خانت الكاتبة في التعبير بشكل متسق عما تريده.
فهي مثلاً حين تصف علاقة البطلة بتقشير البصل، تقول: "أمارس طقس تقشير البصل بمصاحبة صوت أم كلثوم، كل ما يتعلق به يثير حواسي، أنزع قشرته كأنني طفلة تنزع الملابس عن عروستها أو أمّ تستعد لتحمم طفلها، أقطعه على اللوح الخشبي وأنا أترنم بكوبليه تردده ثومة". وحدها تلك المفردة تظهر الصورة حميمة، إلا أن الجملة التالية تناقض هذا التصور تمامًا: "غالبًا أقسّمه قطعًا صغيرة، أعيد قطعها أكثر من مرة، كأنني أنتقم من عدو". صورة أخرى تبدو غير موفقة حين تبدي البطلة امتعاضها من الصور "السلفية" المستخدمة في وصف الجمال بينما تقع هي في الخطأ ذاته: "يزعجني هذا الصلف والاعتداد واليقين، الذي لا يحرك الخيال لمسافة أبعد مما نراه في السماء، ويجعله يدور في خيال السلف. لا تجذبني الأشكال المكتملة، وأرى الهلال أكثر جمالًا وبهجة، أريد أن أشبه الهلال وأن أوصف به". ورغم طرافة استخدام مفردة "الهلال" ككناية عن الجمال، إلا أنها، هي أيضًا، لا تذهب بالخيال أبعد مما هو كائن في السماء. وفي الحالتين السابقتين لا يوحي تناقض المعنى بما قد يخدم التناقضات في شخصية البطلة، بل قد يعطي انطباعًا سلبيًا بزيفها، وهو غرض لا أظن الكاتبة قد سعت إليه.
(*) صدرت الرواية عن دار العين للنشر في القاهرة.
(**) سمر نور حازت، الشهر الماضي، جائزة ساويرس الأدبية فرع كبار الأدباء، عن مجموعتها القصصية "في بيت مصاص دماء".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها