- تقول: "يصدر عدم مشاركة السكان الأشد فقرًا في الانتفاضات وفي الثورات، وحتى في الاحتجاجات عن إدراكهم ان الحفاظ على مكتسباتهم وحال اللاشرعية التي يعيشون في ظلها يتطلب منهم عدم الاعتراض على السلطة التي يشاركونها ويتواطأون معها في انتهاك الحقوق والقانون والحيز العام"، بمعنى آخر فاسدون... لكن في الوقائع السورية ثمة من قال إنها ثورة الريفيين. أنا بورجوازية المدن بخاصة دمشق وحلب لم يتحركوا بسبب مصالحم أيضا. ما قولك في ذلك؟
* الكلام عن السكان الفقراء والأشد فقرًا جاء في سياق مناقشة آراء عالم الاجتماع الأميركي من أصل ايراني، آصف بيات. فهو يقول إن المدن تتغير بفعل زحف الفقراء إلى المدينة، ويسمي ذلك "اللاحركات الاجتماعية". وأردت القول إن هذا الزحف ليس بريئًا، ولا يتم بدون رقابة السلطات. فالسلطات البلدية والحكومية على دراية بكل التفاصيل التي تحدث يوميًا في المدن، ولا تفوتها مخالفة أو تعدي. ولكنها تغض النظر في نوع من التواطؤ بينها وبين هؤلاء الفقراء الذين يحتلون الساحات العامة أو يستفيدون من خدمات الكهرباء والماء وسائر الخدمات بلا مقابل.
ولهذا فإن هؤلاء الفقراء الذين يخالفون القانون يدركون أن ذلك يتم بمعرفة السلطات وبالتعاون معها في أغلب الأحيان. لذا هم أقل من الفئات الاجتماعية الأخرى حماسًا للمشاركة في الحركات الاعتراضية، بما في ذلك الثورة.
أما الثورة، كما رأينا العام 2011 في العديد من البلدان العربية، فلم يكن الفقر هو الدافع إليها، ولم تقم لأسباب طبقية: الفقراء ضد الأغنياء. وإنما قامت لأسباب حملتها الشعارات المختصرة التي ركزت على الحرية والكرامة بالدرجة الأولى، وهي ثورات ضد الاستبداد والتعسف الذي يصيب الفئات الاجتماعية المختلفة وليس الفقراء فقط.
- تستنتج ان الأحزاب الإيديولوجية أسهمت "في تجاوز عداء المدينة القديمة للمدينة الحديثة، وهذا كان متأججاً في المرحلة الاستعمارية"... لنأخذ الموضوع إلى بيروت. تابعت شخصياً بعض القصائد والمسرحيات لشعراء ومخرجين كانوا مقربين من الأحزاب الإيديولوجية، في لغتهم نوع من ريفية معادية وكارهة للمدينة (بيروت) وحياتها وباطونها المسلح... أنت ابن طرابلس المدينة، هل عشت هذه الأجواء في المرحلة الجامعية، هل كرهت بيروت بالمقارنة مع طرابلس؟
* صحيح، في المرحلة الاستعمارية كانت المدينة القديمة هي موطن المعارضة للسلطات الاستعمارية، وكان الأهالي يحشدون الرموز الوطنية مع الرموز التاريخية والدينية أيضًا من أجل المقاومة. ومن هنا اكتسب حي الميدان شهرته في دمشق كما اكتسب الحي الذي يقع فيه الأزهر في القاهرة رمزيته في ثورة 1919، وينطبق الأمر على القصبة في مدينة الجزائر.
إلا أن كل ذلك قد تلاشى مع السلطات "الوطنية" بعد الاستعمار، فكانت ارادة البناء وتجاوز الماضي والتأثر بموجة التحديث التي بلغت مداها في الخمسينات والستينات، إلى درجة أن أهالي المدينة القديمة بدأوا بمغادرتها إلى الشوارع والجادات العريضة. وكان ثمة أيضًا الهدف السياسي، وهو إحلال مصطلح الشعب ومصطلح الجماهير، مكان الأهالي والفئات والطبقات، إلى درجة إلغاء النقابات والجمعيات. والبديل كان الشعب والحزب والزعيم الواحد. من هنا الإهمال للمدينة القديمة وقضمها التدريجي المتعمد وتحاشي كل ما ترمز إليه في الأدبيات الرسمية.
أما موضوع المدينة، وخصوصًا بيروت، في الأدب والمسرح فهو أمر آخر. ويمكنني أن أشير إلى فترة الستينات حين أصبحت بيروت عاصمة للثقافة العربية. وجاء إليها الشعراء والأدباء من البلدان المجاورة ومن مدنها وأريافها. والدهشة عقدت ألسنة وعقول الأدباء والشعراء حين وصولهم وإقامتهم في بيروت. اذكر على سبيل المثال ما كتبته غادة السمان :"لا بحر في بيروت"، وما كتبه محمد الماغوط عن شارع بلس. أما أدونيس فلم يبرأ، بعد خمسين سنة، من بيروت التي كشفت ريفيته وهامشيته المقيمة في نفسه. فما زال يكتب عن بيروت وينتقدها حتى هذا اليوم.
وينطبق الأمر على اللبنانيين القادمين من الأرياف مثل إميلي نصرالله التي بقي الريف في ذاكرتها ولم تغادره. وقد حدث الأمر نفسه مع المصريين الذين قدموا إلى القاهرة من الأرياف البعيدة. فأول ديوان للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي كان: "مدينة بلا قلب" ويقصد القاهرة. لكن في كل هذا الأدب والشعر والتعابير مبالغات، فلم تكن بيروت غريبة وقاسية إلى هذا الحد، ولا يشعر ساكنها بالغربة، خصوصًا أن الذين ذكرتهم كانوا محاطين بالأصدقاء والمعجبين والمشجعين، وباختصار فإن بيروت هي التي صنعتهم.
أما بالنسبة اليّ، فقد أتيت إلى بيروت من طرابلس، وفي ذهني ما يظنه كل أبناء المدينة، وهو أن طرابلس هي المدينة حين كانت بيروت مجرد بلدة صغيرة، وهي مركز الولاية قبل أن تصبح بيروت عاصمة الولاية. والواقع أن بيروت تفوقت على طرابلس ليس في الحجم والمساحة والمرافق، وإنما في الدور. فبيروت التي جئت إليها للدراسة في أول سبعينات القرن الماضي لم تكن عاصمة لبنان فقط بل كانت عاصمة عربية، بل أكاد أقول عاصمة العرب بصحفها ودور نشرها ودورها التربوي الجامعي وحتى السياسي. وقد انخرطت في حياتها الثقافية فعملت منذ كنت في سنتي الجامعية الأولى في مجلة "البلاغ"، ثم جريدة "السفير". وبحكم عملي كنت ألتقي بالفنانين والشعراء. ولم أشعر فيها بالغربة، ولم أكتب فيها أشعار مديح أو قصائد ذم.
- يقال أن الأجانب حين جاءوا إلى بعض المدن المشرقية لم يأتوا إليها حباً فيها، ولا رغبة في إثرائها وإعمارها، ولا حباً في التنوع والتعدد، ولا سعياً إلى معرفة الآخر والتعايش معه، وإنما جاء بهم البحر في المقام الأول بسبب الامتيازات التي أعطتها لهم الدولة العثمانية في أيام قوتها، وأساءوا استخدامها في أيام ضعفها، وهي الامتيازات التي مكنتهم من الثراء السريع على حساب أبناء البلد أنفسهم. من جانب آخر أتت جاليات وعشائر محلية إلى المدن بقيت تشعر أنها "غريبة" كما تقول، وسط جمهرة من الغرباء، أجانب ومحليين. كيف تؤسس مدينة مدينية حداثية؟
* من المؤكد أن الأوروبيين الذين جاءوا للإقامة في مدن مثل أزمير وحلب وبيروت والاسكندرية والقاهرة، لم يأتوا لإعمارها. واتفق معك بأن دوافعهم كانت التجارة والكسب. وفي مرحلة لاحقة كانوا جزءًا من الادارات الاستعمارية. إلا أن هناك دوافع أخرى، منها جاذبية العيش في مدن الشرق التي تجمع ما بين الكسب مع لذائذ الحياة. كانوا يقيمون في أحيائهم الخاصة والتي يمارسون فيها تقاليدهم وطقوسهم الغربية، وفي نفس الوقت يستمتعون بمزايا الشرق والتحرر من قيود الحياة الأوروبية الصارمة. فكان بإمكان الأوروبي أن يشعر بالدعة والتفوق بصفته صاحب امتيازات. وفي القرن التاسع عشر كانت السلطات الحاكمة تحابي الأوروبيين باعتبارهم تجار وخبراء وأصحاب ثقافة وتقاليد سعت الفئات الحاكمة إلى الأخذ بها. عاش الأوروبيون في القرن التاسع عشر في مدن مثل الاسكندرية وبيروت كأنهم سادة يسعى أبناء البلاد الذين هم على صلة معهم إلى كسب ودهم والتشبه بهم. وقد عاشوا في سعة لا يمكن أن يعيشوها في بلادهم.
وهذا الأمر ينطبق على فترات من القرن التاسع عشر وصولا إلى منتصف القرن العشرين. أما بالنسبة إلى أبناء البلاد الذين ينزحون من مناطقهم الريفية إلى المدن، فإنهم يعيشون في غربة ثقافية. لأن المدينة الحديثة لم تستوعبهم إلا كفئات من العمال والخدم.
- سأطرح عليك سؤالاً طرحته أنت: "هل ما زالت مدارس علم الاجتماع قادرة على تفسير المدينة في تحولاتها، أم أننا نحتاج إلى إعادة نظر في المفاهيم والمناهج؟"
* لقد ذكرت ذلك، وهو الأمر الذي عبّر عنه عدد من علماء الاجتماع المؤرخين، أمثال آلان تورين، وأنا أميل إلى وجهة نظره، فنحن بحاجة إلى إعادة النظر بالمفاهيم والمناهج. وما نحتاجه بالدرجة الأولى، هو فهم الآثار التي خلّفتها الحداثة (التحديث) في مجتمعاتنا المدينية. وهذا الأمر لن يفعله لنا أحد، فنحن المعنيون بذلك. وكتابي هو محاولة كما ذكرت، أضعها أمام الباحثين المهتمين ليعيدوا النظر بأدواتهم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها