الجمعة 2018/12/07

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

عزلة وليد المصري.. وطاووسه المتواضع

الجمعة 2018/12/07
increase حجم الخط decrease
لم تكن المأساة التي ألمّت بالفنان التشكيلي وليد المصري، منذ حوالى العام، تراجيديا شخصية تماماً، فهي جزء من مصاب السوريين الكبير، لكن ذلك لا يخفف من وقع المأساة الشخصية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بخطف أب، بعد إطلاق النار عليه، وإصابته، ثم إرسال فيديوهات والتفاوض على الفدية.

قضى الأب في تلك الحادثة الرهيبة، وغرق الفنان في عزلة مرسمه يجهد في اجتراح طريقة في الرسم أرادها نوعاً من التوازن والمداواة. يقول الفنان لـ"المدن": "تكتشف أنه ما زال للموت هذا المعنى الكبير، وأن كل الموت الذي عرفناه خلال السنين السبعة الماضية لم يتمكن من تخديرنا".

كان الفنان وليد المصري، من التشكيليين السوريين (الفنان سوري المولد والإقامة، لبناني الجنسية) الذين أحدثت الثورة تغييراً هائلاً في لوحتهم، هو الذي وجد نفسه ملتزماً بحمل لوحته في ساحات التظاهر السورية في فرنسا، أو أخذها بعيداً في إطار "القافلة الثقافية السورية"، التي دارت مدناً أوروبية عديدة في محاولة لتوصيل القضية السورية. حملت لوحتُه الهم والموت السوري، إلى حدّ أنه رسم أحياناً أعمالاً أقرب إلى البوستر السياسي، من بينها أعمال جاءت إثر مجزرة الكيماوي في الغوطة صيف العام 2013.
 

لكن على العكس من تجربة السنوات السابقة، التي دفعه فيها الموت السوري للخروج من مرسمه إلى الساحات، فقد دفعه الفقد الشخصي للعودة إلى المرسم: "حاولتُ العودة إلى متعة الرسم الأولى، والنظر إليه ليس باعتباره حاملاً لرسالة. أردت الاتجاه إلى داخلي لاكتشاف ما أحتاج. كانت حاجتي للرسم وحسب".

الفقد الشخصي كان "اغتيالاً لجزء من حياتي"، يقول الفنان، وهو بذلك لا يتحدث عن مجرد أب بيولوجي، بل عن رجل وضعه في قلب الفن التشكيلي. لقد ولد الفنان تقريباً في ورشة للموزاييك (وهي حرفة فنية كانت شائعة في غوطة دمشق الشرقية)، ووجد نفسه مبكراً، بفضل المعلم الأب، معلماً في صنعة كانت الأساس المتين لتجربته التشكيلية. فيها عرف مبكراً "المقامات اللونية والشكلية"، على ما يقول. بهذا المعنى تصبح خسارة الأب على صلة بالتجربة التشكيلية، على صلة بمرسم الفنان.

في عزلة المرسم راح الفنان يواسي نفسه برسم الطاووس، فظهر الأخير في أعماله "كائناً متواضعاً بعيداً عن البهرجة، من دون أن أقصد أن يبدو بهذا الزهد".

طاووس وليد المصري لا يشبه بأي حال طواويس الواقع، إنه هنا، في بضعة أعمال عرضت أخيراً في باريس(*)، حزين، عَطِش للون، إذ طبع الأسود بدرجات مختلفة معظم الأعمال، كما لو أن مأساة الفقد أبت إلا أن تطلّ برأسها من جديد.

أراد الفنان أن يهرب من مواجهة أسئلة الموت، ليلاقيها مجدداً حينما يتأمل في معاني الروح، على ما يقول، فالطاووس عند بعض الأديان، تجل للروح، وله مكانته العالية، "أما بالنسبة لي، فهو هذا الكائن الذي لديه كل هذا الجمال، من دون أن يكون لديه وسائله الدفاعية، ومع ذلك لم يتعرض للانقراض".

كتب الفنان في تقديمه لهذه التجربة "الآن، وقد اشتدّت عليّ القسوة وبات كلّ شيء ثقيلاً ثقلاً لا ينتهي، ألوذ بهذا الكائن الذي أحبّه منذ وقت بعيد. أردتُ به الابتعاد عن الأحداث الموجعة والاستراحة إلى حين".

ثم يتابع "اهتدى الطاووس إلى مكانه داخل لوحتي في انسياب وخفّة، وغالباً ما أضفتُ نقطة حمراء إلى اللوحة لأشغله عما يحيط به، وغمرته بالسواد لإبراز فرادته واستقلاليته. أما الدائرة الكبيرة التي تظهر في الكثير من أعمالي فماثلة في مشاريع عديدة سابقة مثل "المفقود" و"الشجرة"، غير أنّني أضعها هنا ليثبت الطاووس أمام عينيّ مخافة انسحابه المباغت وتلاشيه". ويضيف "مدركاً أن الدفاع الوحيد الممكن لدى الطاووس هو جماله، وصوته الغريب الموجع كاستغاثة شخص وحيد. أحمل في نفسي نوعاً من الرهبة تجاه قداسة هذا الكائن، الحاضر في حكايات القدماء وأساطيرهم، ولكن يبقى الطاووس طاووساً، سواء أكان إبليساً أم كبير الملائكة". 



بعض متابعي أعمال الفنان رأوا في تجربته الجديدة (الطاووس) انقلاباً، لناحية التجسيد بعد أن قضى المصري وقتاً طويلاً في أعمال أقرب إلى التجريد، خصوصاً في مجموعته "الكرسي". وهو أوضح أن: "الانقلاب بدأ بالفعل منذ العام 2011، ومع مجموعة "الشرنقة"(2014) ظهر الرمز كمفردة جديدة في لوحتي، مع أن ذلك لم يأت بقرار مسبق، كل ما هنالك أنني تركت اللغة التشكيلية تأخذ دورها لتعبّر عني. لم يكن لدي القدرة على تكرار ما كنت أرسمه سابقاً".

مع ذلك، لا يوافق الفنان على ما اعتُبر انتقالاً من التجريد إلى التجسيد: "ليس لدي القناعة بأن ما كنت أرسمه كان تجريداً. منذ مجموعة "الكرسي" كان هناك دائماً شكل، مفردة أختبئ وراءها لأقدم نفسي، حتى الشجرة لم تكن شجرة واقعية. ستجد في كل تجربة جديدة مفردات تنتمي  للوحتي". ويتابع: "لا الشجرة شجرة، ولا الطاووس طاووس، ولا الأطفال،.. اللوحة تأخذ أي عنصر أو شكل، وتعيد طرحه".

لم تترك العاصفة السورية أحداً من دون أن تغير فيه وتترك أثراً لديه، فكيف إذا تحدثنا عن فنان تشكيلي بحساسية وليد المصري. وهو لا يتردد في القول "هذا جزء مما تغير في حياتي إثر اندلاع الثورة في العام 2011، في مجموعة "الشجرة" كنت أستخدم الشجرة كرمز فعلاً. عندما وضعت الشرانق على الشجرة كنت أتحدث عن آلاف الذين قتلوا في سوريا، وعن أمل بالولادة من جديد. أما الطاووس، فأردتُ رسمه من دون أي رمزية مسبقة، ولكنه عاد وظهر أمام عيني بتاريخه ورمزيته،  فلم أستطع الفرار من ذلك".

(*) في إطار معرض مشترك في باريس في غاليري Premier Regard مع الفنان محمد عمران والفنانة ريم يسوف والفنانة بيسان الشريف. مستمر حتى الخامس عشر من الشهر الجاري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها