الخميس 2018/12/27

آخر تحديث: 11:10 (بيروت)

"السترات الصفر": الموضة

الخميس 2018/12/27
increase حجم الخط decrease
سرعان ما تحولت "السترات الصفر" إلى رمز، يكاد يكون عالمياً. لم تعد حكراً على فرنسا وثوارها الجدد. كما أنها لم تعد بيرقاً لمطالب قومية أو وطنية بعينها، رغم أنها شديدة المحلية في كل جمهرة من جمهراتها. ها هي تمسي عابرة لأوروبا، من غربها إلى شرقها. من بلجيكا إلى بلغاريا، من صربيا إلى السويد، وهولندا، اليونان، بريطانيا، وألمانيا. تتصاعد الدعوات لتنظيم مسيرات في إسبانيا وإيطاليا في مستهل العام الجديد. حتى أنها شوهدت في كندا. وظهرت في شوارع عراقية ولبنانية.

"السترات الصفر" التي يرتكز المتظاهرون الفرنسيون، منذ نحو ستة أسابيع، إلى دلالتها الحَرفية واستخدامها الأصلي، أي أنها تجعل سائقي المركبات والدراجات "مرئيين" في الظلام، حققت الهدف من وجودها. بات أصحابها مرئيين، ومرئيين جداً، حتى فرضوا على الرئيس ايمانويل ماكرون تلبية مطالبهم الأوّلية. وذلك، ليس فقط بتعليق الضريبة على المحروقات، ثم إلغائها، وهي التي كانت الشرارة الأم للاحتجاجات في الشوارع. بل أعلن ماكرون أيضاً رفع الحد الأدنى للأجور، وإسقاط ضريبة مثيرة للجدل على رواتب التقاعد، وإعفاء ساعات العمل الإضافية من الضرائب.

قد يجادل المرء في أن المكتسبات هذه، هي طريقة دولة قوية وراسخة في استيعاب تحرك فوضوي من النوع الذي شهدته باريس ومدن فرنسية أخرى. تحرك ميال إلى العنف. بلا رأس، فيما الجسد يعتمد على قوة الدفع الذاتي، من دون هيكلية تنظيمية إلا ما تيسر من حشد في مواقع التواصل الاجتماعي. والدليل أن أعداد المتظاهرين في تناقص مستمر، انحدرت من نحو 300 ألف مشارك في المسيرة الأولى، إلى بضعة آلاف في أنحاء فرنسا يوم السبت الماضي.

لكن النتائج واضحة: المطالب الأساسية تحققت، والقلة الباقية في الشوارع، كل يوم سبت، تصعّد الآن بمطالب أكبر، ليست حكراً على أبناء الأطراف المنتفضين والذين لطالما حظوا بتأييد معتبر من عموم مواطنيهم، بحسب استطلاعات الرأي. مطالب أوسع من حناجر الطبقة العاملة، أو المهمشين في نظام متزايد الانصياع لمتطلبات العولمة والليبرالية الاقتصادية-الاجتماعية. بل هي مطالب من نوع: "لماذا نتوقف؟ فلنهدم المعبد"، ومنها: حكومة باستفتاء شعبي وحل البرلمان. وهي، للمفارقة، مطالب يرفعها، بدرجات متفاوتة، أقصى اليمين وأقصى اليسار الفرنسيَين، وفقاً رؤى سياسية معروفة للأقصيَين دون المتن العريض على الأرجح. والحال إن هذين القطبين الأكثر تطرفاً في الخريطة السياسية الفرنسية (وبينهما تلاوين.. بعضُها على تناقض أيضاً)، يشكلان الحدود البرانية لحراك "السترات الصفر" من دون أن يكونا خارجه تماماً.

والحال أن هذا الخليط الهجين، يبدو، بشكل من الأشكال، مُلهِماً لغير الفرنسيين. الخليط الذي يمارس السياسة بأدوات اللاسياسة. حتى التفاوض مع السلطة، والحوار من ضمن المؤسسات والآليات الديموقراطية المتعارف عليها (الانتخابات واحترام نتائجها، دعاوى قضائية وعدلية، إثارة النقاش العام عبر الإعلام، التشريع وتحريك كتل سياسية في مجلس النواب وسواه)... باتت مثل هذه الممارسات منبوذة ومُخوَّنة، إلى درجة أن فريقاً من الحراك، حين عزم على بدء تفاوض مع رئيس الحكومة إدوار فيليب، وصلته من "رفاق صُفر" تهديدات بالقتل. فكانت الدولة والسلطة والطبقة الحاكمة بمصالحها واستراتيجياتها طويلة النَّفَس، هي التي مارست السياسة. ليس فقط بتحقيق تدريجي للمطالب وامتصاص جذوة الشارع، بل أيضاً باستخدام الإعلام، وتقنيات "الشرطي الطيب" و"الشرطي الشرير" في الحوار وإدارة الأزمة. هي سياسة الاحتواء، واللعب على تناقضات "الخصوم". أينها من الصالح العام؟ بل، ما هو الصالح العام؟ وفي أي "جهة من التاريخ" تقف الدولة؟ للمقبل من الأيام أن يوضح. لكن المؤكد أن "السترات الصفر"، كحركة، ليست تفعل بالسياسة، وإن رفعت شعارات سياسية. بدأت عارمة وكثيفة. ومنذ بدايتها، حملت مقتلها في بطنها اللامتجانس. والطريف، أن ماكرون الذي ينفّس مناوئيه اليوم، بتكتيكات السياسة، نجح في الانتخابات باعتباره من خارج النادي السياسي التقليدي وأحزابه ومرشّحيه، أي على غرار "البدائل الصفر" للنقابات والأحزاب.

هكذا، يبدو المحتجون على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، في أنحاء من أوروبا والعالم، مقبلين على تبني الرمز، الفاشل سياسياً، والناجح مطلبياً، وإن كان من الصعب الجزم بنجاحه هذا بمفرده، من دون الأخذ في الاعتبار طبيعة النظام الفرنسي وبُنية الدولة. يتحول، إذن، إلى رأس مال رمزي جديد. يتعولم، ضد العولمة وأيقوناتها. يجمع، أينما وُجد، أضداد المجتمع المحلي من دون هضمها. ثقافي، اجتماعي، وسياسي من وِجهة تطهره من السياسة. وفي الوقت نفسه، مطيّة لكيانات سياسية حتى النخاع، لكنها مُخرَجة الآن من الحلبة السياسية الرئيسة وتريد العودة، لا سيما اليمين واليسار الأكثر تطرفاً. لعله كافٍ، من منظور الطامحين لأن يكونوا مرئيين، أن مشهد "السترات" وحده يَعِد الآن أي سلطة، في أي مكان، بتحديها، وبشراسة، بصرف النظر عن إمكانية استكمال التحدي. وهكذا، فإن الإسبان "الصفر"، مثلاً، يتنادَون لاحتجاج لا تبدو عناوينه على تناص مع ما يفكر فيه رفاقهم "الصفر" في إيطاليا، والذين يناهضون الاتحاد الأوروبي ويرفضون سياسة التقشف.

لكنها "السترات"، هنا وهناك. التلويح بالعبث، وبوحدة شعبية ما، لا يهم إن كانت أصيلة أو قابلة للبناء عليها. الكتلة "المتألمة"، والتي لا يجمع بين عناصرها شيء سوى "سترة" قد تحمل معنى مختلفاً لكلّ شخص يرتديها. "السترات"، في "فايسبوك" التونسي، وفي البصرة وعمّان. بل وفي بيروت، حيث لا شيء اسمه عمّال أو صراع طبَقي، ولا أهل أطراف يهجمون للاحتجاج فيها باعتبارها "المتروبوليس". لا شيء لبنانياً سوى الطوائف التي لا سياسة ولا اقتصاد ولا اجتماع إلا من بواباتها. والطرفيّون قد يغزون بيروت أحياناً، أو يستقرون فيها، لكن ليس لممارسة السياسة، ولا حتى على طريقة "السترات الصفر" منزوعة الدسم. وتبقى السلطات المصرية متربعة، بلا منازع، على عرش الدلالة، متوّجة بالكوميديا: تمنع بيع "السترات الصفر" لتريح رأسها من احتمال تظاهرات شبيهة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها