الإثنين 2018/12/24

آخر تحديث: 11:32 (بيروت)

نخلة الميلاد

الإثنين 2018/12/24
increase حجم الخط decrease
بحسب رواية انجيل لوقا، ولدت مريم ابنها يسوع في بيت لحم، "وقمّطته وأضجعته في المذود". وبحسب ما جاء في "سورة مريم"، حملت الأم بالولد بإذن الله، وتنحّت "به مكاناً قصيًّا"، وحين فاجأها المخاض، اعتمدت إلى جذع نخلة وتمنّت الموت والنسيان، "فناداها من تحتها ألاّ تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا. وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي وقرّي عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا"(24-26).

في رواية نقلها الطبري في تفسيره، كانت مريم تخدم في معبد عند جبل صهيون، و"كان معها قرابة لها، يقال له يوسف النجار". وحين عرف يوسف بحملها، "استفظعه، وعظم عليه، وفظع به، فلم يدر على ماذا يضع أمرها، فسألها تباعاً: هل ينبت زرع بغير بذر، وهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها، وهل يكون ولد من غير ذَكر؟ فكانت في كل مرة تجيبه بكلمة واحدة هي: نعم. ثم تردف قائلة: "أولم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده، أم تقول لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ أولم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟".

عند سماعه هذا الكلام، شعر يوسف بأن "الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه". وأوحى الرب إلى مريم بأن تخرج من أرض قومها حتى لا يعيروا بها ويقتلوا ولدها، "فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار"، وحين شعرت بدنوّ الوضع، "ألجأها إلى آري حمار، يعني مذود الحمار، وأصل نخلة، ولمّا اشتدّ عليها، التجأت إلى النخلة فاحتضنتها، واحتوشتها الملائكة" (أي اجتمعت حولها). ونقل الطبري هنا رواية أخرى تقول إن مريم كانت في "قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم"، وهناك "فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة، إليها مذود بقرة، تحتها ربيع من الماء، فوضعته عندها". وناداها المنادي "من تحتها"، وقال: "ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا".

اختلف المفسرون في التعريف بهذا المنادي، فمنهم من قال إنه "جبريل وكان أسفل منها"، ومنهم من قال إنه عيسى "الذي حملته في جوفها". ونقع على فيض من التفاسير الخاصة بهذا السري الذي جُعل تحت مريم، وهو بحسب الرواية الشائعة، نهر "قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمّى سريا لأن الماء يسري فيه".  

هزّت مريم بجذع النخلة فتساقط "رطبا جنيا". والجذع، بحسب تفسير القرطبي، "ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن"، وقد جعله الله يورق ويثمر ليُطعم منه مريم.

لا نجد في الأناجيل الأربعة رواية مماثلة، غير اننا نقع على قصة تتحدث عن نخلة ونهر في انجيل منحول يُعرف بـ"الإنجيل المنسوب خطأ إلى متى"، يعود بحسب الدارسين إلى نهاية القرن السادس، وقد وصلنا باللاتينية، ومصادره الشرقية أكيدة، إلا أنها مفقودة إلى اليوم. في الفصل العشرين من هذا الإنجيل، سارت مريم مع ابنها برفقة يوسف النجار في صحراء مصر، وأبصرت نخلة، فسألت أن تستريح في فيئها، وعندما جلست تحت أغصانها اشتهت من رطبها، فقال لها يوسف بأن الرطب عال لا يمكن بلوغه، وأن ما يشغله هو أمر الماء الذي نفد منهم.

وسمع يسوع الطفل هذا الكلام، فأمر النخلة بالانحناء، فانحنت حتى لامست قدمي مريم، وأكل الكل من رطبها، وظلت النخلة منحنية إلى أن أمرها يسوع بأن تعود كما كانت، فقال بأنها صارت شريكة لأشجار الفردوس في مصيرها، ثم عاد وأمرَها بأن تغرس جذورها عميقاً بالأرض حتى تنبثق المياه من التربة، فنبعت المياه العذبة وتدفقت، وارتوى منها الجميع، وعظّموا الرب، وقدّموا له جزيل الشكر".

في دراسة بعنوان "مريم في القرآن: إعادة تقديمها"، لاحظ الباحث سليمان مراد ان القصة كما تظهر في "سورة مريم" تبدو أقصر من تلك التي ترد في الإنجيل المنحول. "علاوة على ذلك، تجري حوادث القصة في سورة مريم في الوقت التي تعاني فيه مريم من أعراض المخاض، والخلفيّة تعرّف بأنها موقع قصيّ فقط. أما في الإنجيل المنحول لمتّى، فيسوع قد وُلد سلفا، والحادث يجري أثناء الهروب إلى مصر. يظهر إذاً إننا نتعامل مع قصتين المشترك بينهما فكرة معجزة النخلة".

في استقصائه لمصدر النصّين، يستعيد الباحث قصة من الأساطير اليونانية القديمة تتحدّث عن مخاض ليتو وميلاد أبولو. تقول الأسطورة إن زيوس، كبير الآلهة، وقع في حبّ ليتو، فحملت منه، ثم تزوج من هيرا التي علمت بحمل تيتو، فغضبت، ولعنتها كي لا تتمكن من الولادة على أي يابسة على وجه الأرض. وهكذا جابت ليتو الأرض، وعندما أضناها المخاض، طردها الناس من أراضيهم خوفاً من غضب هيرا، فلجأت إلى جزيرة ديلوس، وجلست مكروبة عند نخلة على ضفاف نهر إينوبوس، وهناك وضعت طفلها أبولو، إله الشمس والغناء والشعر.

كُرّست ديلوس لأبولو، فأصبح الإله الحامي للجزيرة، ونقل الناس كل جثث موتاهم إلى جزيرة قريبة، وأصبحوا لا يدفنون أي ميت فيها لارتباط الظلام بالموت، بينما أبولو مرتبط بالنور. وانتقلت النساء الحوامل إلى جزيرة مجاورة لوضع أطفالهن، ليكون أبولو الطفل الوحيد الذي عرفته الجزيرة.

يتكرّر صدى هذه الرواية في مجموعة من النصوص الأدبية اليونانية القديمة، ومنها "ترنيمة إلى ديلوس" التي وضعها كالليماخوس في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد. يستعيد الشاعر مسيرة ليتو إلى الجزيرة، ويصف كيف وضعت ولدها وحدها: "هكذا تكلمت، وهي أطلقت ألم تطوافها الطويل في تنهّدة وجلست بمحاذاة نهر إينوبوس، وهو يطوف حينذاك بمياه تنبع من الأرض في فصل فيضان النيل، منصبّة من الهضبة الأثيوبية. حلّت زنارها، ومالت إلى الوراء، ساندة كتفيها على جذع نخلة، منهكة تماما، جلدها يتلألأ بالعرق، وقالت، في همس تقريبا: لماذا يا ولد، لماذا كل هذه الصعوبة على أمّك؟ هنا يا عزيزي جزيرتك، تبحر في البحر. أولد، يا ولد، أولد وتعال بلطف من الرّحم".

يستشهد سليمان مراد بهذا النص، ويؤكّد أنّ "قصة النخلة التي وجدت طريقها إلى سورة مريم هي إعادة لمخاض ليتو. إنّ القصة حول امرأة حبلى مكروبة (ليتو/مريم) تطلب مكاناً منعزلاً (ديلوس/مكان قصي)، تجلس عند جذع نخلة مواجهة لنبع (إينوبوس/جدول)، وتلد طفلاً مقدساً (أبوللو/يسوع)". ويرى الباحث أن الأسطورة الإغريقية وصلت بشكل غير مباشر إلى العالم الإسلامي من خلال مجموعة مهتدين إلى المسيحية عبدت سابقاً ليتو وأبوللو، قد تكون مجموعة جماعة نجران التي كانت تعبد شجرة نخيل قبل اهتدائها إلى المسيحية.

بحسب رواية نقلها ابن اسحق، واستعادها من بعده الطبري وابن هشام، دخلت المسيحية نجران من طريق رجل "من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم يقال له فيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا، مجابَ الدعوة، وكان سائحاً ينزل بين القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها"، وتبعه رجل يدعى صالح، ومضى معه "حتى وطئا بعض أرض العرب"، وتعرضا هناك للخطف، وتمّ بيعهما في نجران، "وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة، فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلي النساء، ثم خرجوا إليها وعكفوا عليها يوماً".

تحدّى فيميون عبَدَة هذه النخلة، وقال لهم: "إنما أنتم في باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له". وقام وتطهّر وصلّى ركعتين، ثم دعا الله تعالى، فأرسل الله عز وجل على النخلة "ريحاً فجعفتها من أصلها فألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم عليه السلام".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها