وهذه الأدوار، والمسارح، وإلى حدٍ ما قواعد العلاقات (مبانيها)، يُراد لها أن ترهص بالتاريخ السوري اللاحق وحوادثه ومراجله المتعاقبة على شاكلة إرهاص النواة بالثمرة أو الثمار. ويخالف المثال التاريخي هذا، على رسومه وتقسيماته وأقطابه، النازع السوري الغالب إلى افتراض الوحدة "القومية" كامنة في الارض (البلاد) وفي الناس (الأهالي)، وملحة على السيرورات المرافقة. ويشهد الانعطاف الكبير الأول، مع حملة ابراهيم باشا المصري ابن محمد علي، بروز قوة إقليمية جديدة تسعى في مكافأة السلطان العثماني على أرضه، إذا جاز القول، وضم ولايات المشرق إلى الحجاز والسودان، ومصر أولاً. وترتب على هذه السياسة إخلال فادح بالنظام العالمي المولود من مؤتمر فيينا (1815)، غداة هزيمة نابليون، وبتبلور "جوق الأمم" الأوروبي الذي صاغ موازين العلاقات الدولية طوال القرن التاسع عشر.
وسمات الانعطاف المصري هي إرساء "عمارة السلطات" على الصورة التالية: جباية الموارد من غير انقطاع ولا هوادة واستثمار عوائدها الثابتة في بناء قوة عسكرية متماسكة، وتتولى هذه كسر الجماعات المحلية والانكشارية وتقويض استقلالها، وضبط نوازعها الطرفية "الانفصالية". ويقتضي الاضطلاع بهذه المهمات والأدوار استمالة نخب المدن وإرساء نفوذها على مجالس محلية "منتخبة"، وتأمين الطرق، والسيطرة على الحيز البدوي بواسطة سلسلة قلاع و"قصور" تطوق الحزام البدوي العريض، وتربط حوض الفرات بالإطار المحدث. وبعثت ضريبة الفردة (على الرأس) نقمة النخب المسلحة، وحملت السلطان العثماني على مناشدة العلماء القيام على المصريين، "أعداء الإسلام"، وكافأت الانتفاضات الريفية والمدينية إجراءات تمكين القوة المركزية.
وأكملت الإصلاحات (التنظيمات) بعض ما بدأه المصريون. فحضن محور حلب - درعا زراعة القمح. واستقر السكن الريفي حول حلب على كثافة متعاظمة في أعوام 1840. ونزل ضفاف الفرات قريباً من مسكنة سكان من أصول بدوية. وامتد السكن إلى دير الزور. وأنشئ حصن ثابت في ديرالزور، وآخر في الرقة. وتدريجاً، برزت بيروقراطية سلطانية غلّبت المجالس على الولاة، ومثلت المركز بإزاء الأشراف والقبائل، وتولت قمع انتفاضات المدن على مساواة "أهل الذمة" بالمسلمين. وأفضى قمع هذه الانتفاضات (وأبرزها انتفاضة حلب في 1850) إلى إضعاف حلف الأشراف والقبائل و(بقايا) الإنكشارية. وتصدرت البيروقراطية الإدارية والعسكرية الناشئة للجماعات المذهبية المتمردة، فسحقت تمرد العلويين والدروز بلا رحمة، بينما أعلن اختيار خيري بك، وهو وجه محلي، قائمقاماً على بلاد العلويين حرص الإدارة المركزية على مراعاة القوم بعد قمعهم.
واستولى الأعيان، وهم ثمرة "صهر" (أو حلف من طريق القرابة والزواج) أسر العلماء والتجار وأصحاب المناصب العسكرية، على وثائق تملك الأرض عملاً بقانون 1858، وعزف صغار المزارعين ومتوسطهم عنها تفادياً لأداء رسومها. وأفضت حرب القرم (1853-1855) إلى إعلان خط همايوني نص على تقاضي المسيحيين أمام القضاء القنصلي أو القضاء المختلط. فتضافر ظهورهم في بعض الوظائف الإدارية مع استفادتهم من التقاء مرافق اقتصادية محلية بمصالح أوروبية عالمية، على "تجميد" الفروق والفواصل الطائفية. وترتب على هذا انفجار الاقتتال بين المسيحيين والمسلمين، منذ 1856، في نابلس وزحلة وديرالقمر وحاصبيا وراشيا ودمشق. فتشابك تدخل الدولة (العثمانية) مع التطييف. ونزعت النخب الاقتصادية، من مختلف المذاهب، إلى تجانس اجتماعي ركنه ملكية الأرض والثروة. وطويت صفحة منازعات "الغرضيات المحلية" وغلب الأعيان على الحياة العامة (فيليب خوري وألبرت حوارني) وتصدرها آل جبري وهنانو وقدسي ورفاعي وكيخيا وبكري... وشاركت المدنَ المكانة والدور السياسيين الاجتماعيين "بلاد" الجزيرة وديرالزور (خصت بإيالة في 1852) وتدمر، بينما أنجزت "السلطة التقنية" (يوجين روغان) مركز السلطنة.
وبلورت التقسيمات الإدارية، في 1864 و1867، عشية إعلان الدستور في 1876، مركزين، حلب ودمشق. وتولى الأول إدارة بلاد ومناطق بين ساحل اللاذقية وبين كيليكيا (الجنوب الأناضولي) والجزيرة. وعاد إلى الثاني تدبير الجليل والبقاع، إلى تدمر شرقاً، وحمص وحماة إلى الشمال. وخرج عن عهدة دمشق العثمانية سنجق القدس، ومتصرفية جبل لبنان التي استقطبت بيروت تدريجاً أنشطتها ومنازعها. وحرفت قناة السويس في 1869 طريق القوافل عن البادية السورية – العراقية إلى البحر الأحمر. وشُقت طرق مواصلات برية ربطت حلب بدرعا، وبيروت بدمشق، وحمص بالساحل، وحلب باللاذقية ومرعش وعينتاب ودياربكر، وبعد أعوام وصلت رياق بحمص وحماة، وحماة بحلب، وحمص بطرابلس، واخترقت محطات القطارات، في دمشق وحلب، الحارات القديمة وأنشأت أحياء سكن جديدة خارج المدينتين. وأرست مكاتب البرق المركز الإداري والسياسي على شبكة اتصالات عريضة. وتوسلت الرقابة على المطبوعات والرأي بهذه الشبكة على قدر ما كانت الشبكة عاملاً في مد الصحافة وتغذيتها.
ونجم عن ضعف الدولة الضريبية وضمور الجباية قصور السلطة عن الاضطلاع باحتكارها العنف المشروع، وعن توليها التأطير الأمني للبلاد. ولعل مصدر هذا القصور هو القيد القانوني على تدخلها في أمور الملكية العقارية، وعزوفها عن تسجيل الملكيات وإحصائها الدفتري. ولكن قوة القبضة العسكرية العثمانية، وانتشار الحصون في أنحاء الولايات السورية، حالا دون ارتقاء المعارضات المتفرقة إلى مرتبة الصف المتماسك. وانتهجت سلطات استانبول في سياسة المعارضات الأهلية والمحلية نهجاً قضى على تماسكها. فعمدت إلى انتخاب قادة حركات التمرد، مثل اسماعيل الأطرش الدرزي، مسؤولاً إدارياً على البلد الدرزي، وهو النهج الذي اعتمد مع العلويين ومع مشايخ القبائل من قبل ومن بعد. وأفضى إلى الجمع بين تثبيت العصبيات وتقويتها من وجه، وإلى إلحاقها بالسلطان وعماله من وجه آخر.
ووحدت محطة القطارات والساحة الجديدة على ضفتي بردى، على قول المؤرخ، عالم الأسواق وقافلة الحج. وتخطت المباني الحديثة أسواق المدينة القديمة، وانتشرت المحال التجارية على محورين. واستقبلت المقاهي شباباً متعلمين يتداولون أفكاراً غير أفكار آبائهم، ويلبسون ثياباً أوروبية، وتغشى النساء أماكن لقائهم. وخرجت المقاهي والمدارس والشوارع عن الرقابة الاجتماعية التقليدية، على ما لاحظ فخري البارودي. وشبكت حياة المدن "الأدب"، على معنيي التهذيب والثقافة، بنشدان فئة أو شريحة الشباب المتكاثرة تغييراً عاماً. وفي مطلع القرن الجديد، العشرين، استوت طبقة "الأفندية"، من المتعلمين وأهل المهن الحرة (المحاماة على الخصوص) المتحدرين من آباء موظفين وتجار وعلماء وحرفيين ميسورين، ظاهرة ومعلماً على بنيان اجتماعي ناشئ. ودمجت هذه الطبقة، "موقتاً" على قول الكاتب الحذر، روافد طائفية وقومية متباينة. وأفل دور القبائل مع عجزها عن قطع المواصلات الحديثة، وآخرها خط بغداد ومحطته الأخيرة في عين العرب (كوباني الكردية)، ومع تفادي المسافرين ديراتها بين تدمر والفرات.
وولدت صورُ التغيير هذه أسئلة عن طبيعة الأواصر التي تشد الأفراد بعضهم إلى بعض، والجماعات بعضها إلى بعضها الآخر. فذهب شكري العسلي ولطفي الحفار إلى إرساء الأواصر الجامعة على رابطة العروبة، حين رأى رشيد رضا وجمال الدين القاسمي أن عروة الإسلام أحرى بتولي الجمع والتوحيد. وألَّفَ "المركّب الحميدي"، نسبة إلى السلطان عبدالحميد، بين اتساع نطاق الدولة الى حدود التوطن المستقر ودوائر الزراعة وزيادة السكان، وبين القمع البوليسي والتمثيل الضريبي والدمج في الإدارة ومراكز القرار. وعلى هذا "دُوّلت سوريا"، أي رست مرافقها على أبنية الدولة. واستقبلت الانتداب الفرنسي وهي على هذه الحال.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها