السبت 2018/12/15

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

معتقلو السجون السورية يحكون: الكوليرا وقلع الأظافر وزحف التعرّي

السبت 2018/12/15
increase حجم الخط decrease
عندما سألت علي أبو دهن، قبل أيام من عرض "بلا عنوان"، عن الضغط النفسي وكمّ الألم الناتج عن بروفات العرض، اكتفى بالإبتسام. قلت له: "ألا يخيفك أن تزور كل ما مضى وتقوم بتمثيله على الخشبة مراراً وتكراراً... كم سيكون مؤلماً لك هذا الأمر؟"... أجاب أن "مَن مرّ في السجون السورية لن يخيفه ولن يؤلمه شيء". لربما في الأمر تعالٍ على الجراح... لعلّه أيضاً فعل امتنانٍ أنه نجا، ممزوج بالمسؤولية، والأرجح أن في الأمر حاجةٌ مُلحّة لجعل كل هذه الآلام على مرأى ومسمع من الجميع. تلك الحاجة المُلحّة سيتشاركها كل من أبي يوسف شمس الدين، مارون بوبان، الياس طانيوس، سعدالدين سيف الدين، موسى صعب ورشيد ميرهون. سيدير دفة العرض عمر أبي عازار، من فرقة زقاق بالتعاون مع مؤسسة "أمم" و"جمعية المعتقلين اللبنانيين السياسيين في السجون السورية" التي يديرها علي نفسه. 

يعدّ هذا العرض المسرحي امتداداً لمشروع فيلم "تدمر" للقمان سليم ومونيكا بورغمان اللذين قدّما شهادات لسجناء سابقين، أعادوا استحضار وتمثيل لحظات التعذيب التي تعرضوا لها خلال فترة الإعتقال، حيث تناوبوا على لعب دورَي الضحية والجلاد معاً في فضاء يعيد بعضاً من إحساس فضاءات السجون.

في "بلا عنوان" - هذا التعاون المشترك بين طرفين اشتغلا منذ سنوات على موضوعة الذاكرة بشكل عام، وقضية المفقودين بشكل أخص، هنالك قدرٌ من الفجاجة يسبب ألماً كبيراً عند المشاهد. لكنه في الوقت نفسه يتناول هذا المعيوش، معيوش الإعتقال والتعذيب، من كل جوانبه المفرحة والمحزنة. لا حاجة هنا إلى بذل الكثير من الجهد والمسرحة لإبراز مكامن الألم. اذ إن هنالك سحراً خاصاً في تناول الوقائع عبر صوت وجسد وإيقاع من عايشها واختبرها. هذا السحر الذي قد نلمسه في شاشة فيلم "تدمر" له أثرٌ مضاعف على الخشبة.

تطغى على فضاء المسرح، طاولة بيضاء تحدّها جدرانٌ من الإسمنت. الكؤوس الحمر موضوعة بعناية على الطاولة مع بضعة صحون من الخبز. تدريجياً، ستدخل مجموعة من السجناء السابقين، فضاء العرض، في احتفالية لا تتعدى فعل اطلاق التحية بين سبعة أصدقاء. تلك التحية ستجد نقيضها في سياق العرض، حين ستتعارض دماثتها وعفويتها مع قساوة وعنف التحية التي، يتوجب أن يلقيها السجناء على سجانيهم. ما هو مؤثر في هذا العرض ليس فقط فظاعة سرد التعذيب الذي تعرّض له السجناء، انما هذا السعي لكل منهم لتعريف الأشياء والمصطلحات داخل السجن. كما لو أن هذا الفضاء فَرَض لغةً جديدة، وفهماً مغايراً محكومَين بكمّ الإضطهاد والتعذيب. مثيرٌ جداً أن يرى المشاهد كيف يعرّف كل سجين كلمة "تحية" أو "شرّاقة" (أي منفذ الهواء أو فتحة السقف) أو "السنية" (أي زيارة طبيب الأسنان) أو "قصعة" منطلقاً من أثر العذاب ووطأة المكان.
  

لا يستنفد العرض، الكثير من الطاقة لإبراز فصول التعذيب التي، للمفارقة، كانت الحاضر الأساسي في العرض من خلال سياقات تنافي وتناقض فعل الإبراز بشكل درامي والذي يصرّ على تثبيتٍ مسرحيّ للسجين في موقع الضحية. مثال على هذا التوجه هو اختلاف الأصدقاء على قصة موت جوزيف: ستَرِد كل احتمالات المَقتل، الناتجة عن فصولٍ لا تحصى ولا تُعد من العنف، لكن في سياق فعل اختلاف حول سردها. أكثر الأمثلة تعبيراً على هذا التوجه، هو المشهد الذي يصر فيها سعدالدين على أن يُري المشاهدين كمّ الألم الجسدي الذي تعرض له مع كل تفاصيل التعذيب: "بدي فرجي الناس، أنا مش جايي مثّل". هذه الحاجة الملحة لنقل صورة التعذيب عند سعد، هي موضع تساؤل واستحالة عند البعض: كيف من الممكن الحديث عن الجَرَب أو عن الكوليرا أو عن حكاية حسن هوشر أو عن فعل الزحف تحت وطأة التعرّي والتدميم، أو فعل قلع أظافر أحد السجناء؟ يستحيل التوصيف وتستحيل تلك الآلام التي لن تصبح مرئيةً لأحد الا لأولئك الذين عايشوها. كل تلك العذابات لم تُنقل في سياق العرض، إلا من خلال تساؤل حول امكانية نقلها، الأمر الذي ينفي توصيفاً مفصلاً عنها والإكتفاء بالإشارة عليها. هنا لا يكون المسرح منصة نقل شهادات، بل هو هنا فعل تَوارٍ للألم خلف محاولة لإستخراج القوة من أصعب المواقف. تلك الإستحالة في قدرة المسرح على نقل وطأة الألم على أصحابه، أدّت الى استحالة في تسمية العرض الذي أصبح "بلاعنوان".

أبو يوسف يهزأ من عنوان العرض، ويلعن أثر الإستعمار، يبحث وسط كل تلك الظلمة عن الفرح. ستتوالى لحظات الفرح إذاً، نزولاً عند رغبة أكبر السجناء: سعد الدين يذكر كيف دخل ورأى والدته تُبصّر "بيطلع سعد، بيطلعش سعد". علي، عندما تفتح له زوجته الباب، يغمى عليها. يقفز فوقها ويذهب ليرى بناته... لكنه لا يعرفهم. تعود زوجته لتعاتبه...

تكثر لحظات الفرح والإمتنان في "بلا عنوان". علي يشكر زوجته على ما قامت به في غيابه ويعترف أنه لم يكن ليقوم بإنجازاتها لو كان حاضراًِ. ويكفي فقط أن نلقي نظرة على أبي يوسف، هذا الرجل السبعيني ضعيف البنية، ذي النبرة البيروتية العالية والذي يتفاعل مع الجمهور بشكل استثنائي. يكفي استذكار كيف ابتكر كلٌ من السجناء طريقة لإختراع قلم وورقة لتدوين يومياتهم: قلمٌ يخترعون حبره من زفر الطعام، أو من دكّة كلسون، أو من النايلون أو من الصابون... ليست النهايات كلها سعيدة: ريمون في نهاية العرض، يقول إنه اعتقل في المطار خلال ما كان يهاجر مع عائلته وأخواته. عندما خرج لم يجد أحداً. لكنه واسى نفسه، بغصةٍ كبيرة، قائلاً لأصدقائه: "انتو اخواتي". تلك الغصة تعجز أي كلمات عن وصفها. 

أثر كبير يتركه هذا العرض في كل من يشاهده. تلك النظرات الشخصية لأصغر معيوش في سجون تدمر والمزة وغيرها، فيها من الحب ما يكفي للتمسك بالحياة والإصرار على البوح كفعل مسؤولية، أمام كل المسجونين وضحايا الإخفاء القسري الذين لم يُعرف مصيرهم بعد.  


(*) "بلا عنوان" عرض مسرحي - 50 دقيقة، "جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية". تعرض اليوم وغداً، 15 و16 كانون الأوّل/ديسمبر الجاري، الساعة 8,30 مساءً في استديو "زقاق".
العرض باللّغة العربيّة مع ترجمة للانكليزيّة
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها