الجمعة 2018/12/14

آخر تحديث: 14:44 (بيروت)

عصافير سمعان خوام

الجمعة 2018/12/14
عصافير سمعان خوام
"إنه العصفور المجهول، يغني قبل أن يطير"، على ما كتب رينيه شار.
increase حجم الخط decrease
ليست عصافير سمعان خوام جارحة، بل مجروحة، كما أنها ليست محلقة، بل ثابتة، مثلما أنها ليست منقضة، بل منقوضة، وذلك، لسبب أساسي، أنها في مصيدة (*). فمن الممكن للمتفرج على هذه العصافير أن يتخيل قصتها على الشكل الآتي: كانت ترتفع في السماء، تجتازها، نزلت قليلاً، وراحت تستدير وتطوف حول بعضها البعض، إنها حركة جذل. والشمس، على عادتها في نص الإنشاء المدرسي، تضيء أجسامها بخيوط نورها. والغيوم الخفيفة، وعلى عادتها في النص نفسه، تتبدد أمامها وتتيح لها الأزرق الذي كانت تحجبه.
 
لكن، فجأةً، يحصل شيء، فتقع، تهبط، وفجأةً، يحاول صوت قوي أن يخرج منها، لكنه يظل مكتوماً، فينفجر فيها، مُضخماً إياها. قصة حزينة، وكل معرض خوام، هو محاولة في "عصفرتها"، أي، وعربياً، إمالتها، أخذها والطيران بها.

فالرجل-العصفور هو عكس الصياد، ليس لأنه إنسان طيب فقط، بل لأن العصافير تشكله، أو بالأحرى يتشكل من التحول إليها أيضاً، وهذا ربما معنى آخر للطيبة.

فعلياً، قد يكون الحديث عن العصافير التي نحتها خوام، من باب ترميزها أو إستعارتها، هو حديث باطل. ذلك أنها لا تدل على موضوع غيرها، كما أنها لا تحل محله بالتشابه معه. هذه العصافير هي نفسها، ولهذا بالذات، الحديث عنها لا يمكن أن يستقر إلا على سوية إيكولوجية حيوانية: كانت تطير، فدخلت بيئة ثقيلة ودبقة، لا تناسبها البتة، فتوقفت عن حركتها، وأقفلت أجسامها، وانحصر نموها جوانياً، فتورّمت، وتشوهت.

أول ما يتبادر إلى الخاطر، أن هذه البيئة هي بيروت، وهي البلاد التي صارت "أكلجتها" لازمة، إذ غدت مصيدة للعصافير، وباقي الحيوانات، وفي مقدمتها الأسماك. فلا يمكن غض النظر عن كون عصافير خوام، وفي هيئة منها، هي أسماك، وهذا ما يشير إلى أن هواء بيئتها يتطابق مع الماء، ونتيجة ذلك، لا تقدر على العيش فيه سوى سمكياً. كما أن ماء البيئة إياها يتطابق مع الهواء، ونتيجة ذلك، لا تقدر الأسماك على العيش فيه سوى عصفورياً. امتزاج حيواني، وهو أثر من آثار موت البيئة. لكنه، في الوقت نفسه، مخالف لها، نزوع إلى الحياة فيها. العصفور يصير سمكة، والسمكة تصير عصفوراً، لكي يعيشا.

عدا عن كونها سمكية، غالباً ما تكون عصافير خوام مشحوذة الأطراف، ومن سياق شحذها هذا، يكون سانحاً الوقوف على صلتها برجلها. فهذه العصافير، ولأن البيئة التي دخلت إليها تجمدها، قتلاً أو حبساً، تحنّطها لتعلقها في واجهاتها وصالوناتها، تبدو أنها تتصارع مع تحنيطها هذا، الذي تلتف عليه، ولا تجعله يلتقطها بالمطلق. وفي مسعاها إلى الإلتفاف على التحنيط، تبدو هذه العصافير رفيقة للكائنات الأخرى، كالأسماك والدواب، الإنسية أيضاً.

فعلى الرغم من كونها في صراع مع تجميدها، إلا أن هذا الصراع يجمعها مع تلك الكائنات الإنسية، المنحوتة على سقوط، وعلى وقوف، وعلى كدر، وعلى جزع. وبهذا الجمع، تغط عليها، حيث ترتاح كما لو أنها تغط على موطنٍ لها، وسرعان ما تحمله. 

لا تهجم على هذه الكائنات، بل تنتشلها، ترفعها. مثلما أن هذه الكائنات، وبالجمع ذاته، تسعى إلى الإلتحاق بها، إلى التحليق صوبها ومعها. فأن تصير "عصفورية"، فهذا منفذها من تحنيطها هي أيضاً. العصفوريون هم الذين يتحولون إلى طيور، كي يفلتوا من تحنيطهم بالعلو. وتحولهم هذا، لا يعني اقترانهم الدائم بالطيور، أو تماثلهم معها، بل إنتاجها فيهم من خلال أي حركة من الحركات: العصفوري، الذي يفلت العصافير، والذي تفلته العصافير، هو من يتطلع إلى السماء في حين أن التدمير الإيكولوجي مستمر، أي تدمير الأعلى، وتلويث الأسفل، وتحنيط أي حياة حيوانية وإنسية ونباتية بينهما.

بين منحوتات سمعان، ثمة عصفور مصلوب، وعليه وَرد. هذه المنحوتة هي إكتمال المعرض، وصول الكائن الحيواني بغيره الإنسي، ووصول "العصفرة" إلى تمامها. إذ إن العصفوري، وبأطرافه المشحوذة، يرتفع، يحلق عمودياً، وبالفعل نفسه يحقق القيامة: "إنه العصفور المجهول، يغني قبل أن يطير"، على ما كتب رينيه شار.

(*) معرض الفنان السوري اللبناني، سمعان خوام، بعنوان "الرجل العصفور"، مستمر في غاليري "أجيال" في بيروت حتى 29 كانون الأول/ديسمبر 2018. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها