الثلاثاء 2018/12/11

آخر تحديث: 14:29 (بيروت)

‏محمد خضير‏... كرسي الأفق(*)

الثلاثاء 2018/12/11
‏محمد خضير‏... كرسي الأفق(*)
الراحل رافع الناصري مع الفنان مظهر أحمد
increase حجم الخط decrease
(*) ظل هذا الكرسيّ يدرج بصاحبه حتى اختفى وراء الأفق. كان هذا الاختفاء مآل الفنان الرمزي بحقّ، ولطالما تخيّله في لوحاته، بأكثر الوسائل عرفاناً وشطحاً لونياً مركزاً. بعد هذا الغياب التدريجي لن يشكّ متأمّل للوحاتِ رافع الناصري في أن التابوت المدولب ذهب الى دار حقّه، كما يقول المسلمون. لكن القائلين بهذا قد يغفلون عن أن الدارجين بكراسيهم نحو أفق الحقّ، يدخلون في مدارجهم العرفانية بدرجات غير محسوبة على تصنيف المذاهب والفرق والجماعات؛ فلطالما كان رافع نسيج وحده. إذ أهمّ صفات الموحِّد التركيزُ على نقطة في الأفق؛ ومن درجات العرفان العليا أن تقوى على مجابهة هذه النقطة المحفوفة بغيمة الشكّ والمجهول. وكلّ ما رسمه رافع محاولاتٌ لإدراك القيمة المطلقة لنقطة الأفق، قبل الالتفاف بغيمتها.

قد يعزو ولع رافع بالمساحات الفارغة (التجريد المطلق) إلى ميل شديد للتفرد بأفقه التصويري. وما شطحاته اللونية إلا اختبارات فالتة من الجذب الشديد للنقطة، ومراوغة للزمن الأرضي المنتظم في أشكال ورسوم. وهذا اختبار أساسيّ في التجربة الصوفية، التي تعنوِن المطلق بترويسات شكلية. ولا نعلم من أين اقتبس رافع هذه العنوانات، إنْ كانت طبعاً أصيلاً في شخصيته الفنية أو كانت اقتباساً إسلامياً تقليدياً دائراً حول ترويس الحروف ونثرها حول نقطتها المركزية. وكان هذا الانشغال واحداً من أولاع شاكر حسن آل سعيد الصرفة، التي تدرّجت به من الرسم التشخيصي الى تأمل الخلفيات الساندة لموضوعاته الخطّية، عبر نصوص تصوفية قرائية وبصرية. لكن ثمة بون واسع بين خلفيات شاكر ذات البعد الواحد وآفاق رافع التكوينية. تلك أدخلت أشكالَ الفنان البغدادي في بُعد عرفاني تأويليّ، وهذه قرّبت فنانَ الأفق من حدسه العرفاني غير المؤوَّل. وقد تكون هذه الثنائية التجريدية في اتجاهات الفن التجريدي (الطبيعة الفردانية الحدسية والتطبّع العرفاني الصوفي) مصدر الكثرة والقلة في انتاج فناني الفترة الوسيطة من القرن العشرين في العراق، حيث اجتمع التلاميذ والأساتذة خلالها على صعيد مشترك من التقليد والابتكار، ما عدا قلة انفصلت عنهم لتحترف الصنعة "الكرافيكية" الأقرب الى "طبعها" المؤصل في ذاتها العرفانية، بنوعيها التأويلي والحدسي.

ساعدت دراسة رافع لفنّ الكرافيك في الصين والبرتغال في الأعوام 1959- 1969 على قلب التربة العرفانية للدارس البغدادي. كما اتاحت له فرصةُ التدريس في المعهد إلى جانب فنانين أوربيين مهمين هما أرتموفسكي وفالنتينوس اختبارَ معرفته الحِرَفية وتطويرها (وتكاد فترة الانعطاف الثانية لأفق الفن هذه تشبه فترة التأسيس الأولى بعد الحرب العالمية الثانية في تجربة جواد وفائق وجميل حمودي وآخرين قلة). فقد كان العطش شديداً لبدء الرحلة وراء الأفق، وابتكار مصادر غير واقعية لرؤى محتجزة بالقيود والتعاليم الصارمة؛ وكان سلوك الطريق الثالثة بالهرب خارج الحدود مصيرَ الجماعة المتمردة التي تاقت للاتحاد بمجهولها. بينما جمع رافع الناصري ما تبقى من روّاد الطرق في جماعة "الرؤية الجديدة". (هل أحسَّ رافع بقلق المكان الذي احتجز كرسيه في وقت مبكر قبل الآخرين؟). من المؤسف أن رافعاً لم يكن مهموماً بتتبع ارتقائه العرفاني مثل شاكر آل سعيد؛ إذ ظلّ مختفياً وراء حدسه التعبيري يلوّنه بإصرار شديد ولا يكتبه (ما عدا مقالات احترافية عن فن الكرافيك نشرها بعد خروجه من العراق العام 1991).

لا أحسب انتقال رافع للإقامة في الأردن قد منحه بعداً جغرافياً فوق طبيعته الشخصية والعرفانية؛ فاعتباراته تختلف عن مقاصد الفنانين الآخرين الذين غادروا في هجرة شبه جماعية قبل نهاية القرن الماضي. لا نستطيع القول بمغادرته مكانه الاعتيادي إلا عندما التصق أخيراً بكرسيه المتحرك التصاقاً اضطرارياً، فقد أحس بخطر الانجراف الى مهوى نقطة الأفق بسرعة هائلة (شبّه الفنان الأميركي أندرو ويث منظور اللوحة بقِمع تنجرف اليه الأبصار بشدة مهما اتسع أفقها التعبيري). كان مركز الثقل قد شدّ الرؤية المغتربة عن أرضها وحدسها المجرد من الاعتبارات المنظورية بقوة جارفة إلى ثقبها الرمزي، في وقت كان التابوت المدولب يبدي مقاومة ضعيفة إزاء هذا الانجراف، وتزداد لديه لذة التأمل في المساحة المتبقية من الحياة واللوحة معا.

(*) مدونة كتبها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها