الثلاثاء 2018/12/11

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

أبواب "مسرح المدينة" الموصدة.. في المهرجان الوطني!

الثلاثاء 2018/12/11
أبواب "مسرح المدينة" الموصدة.. في المهرجان الوطني!
بدا المهرجان الوطني للمسرح، كمتراس من متاريس "المدينة" الذي يقصي إمكانية الحوار
increase حجم الخط decrease

الثامنة إلا عشر دقائق مساءَ السبت...
وصل محبو المسرح الساعة الثامنة إلا عشر دقائق من مساء السبت، إلى مدخل مسرح المدينة، فوجدوه مقفلاً. عبثاً حاولت السيدة أن تشرح للشاب الموجود خلف الباب الزجاجي، أنها آتية من صيدا وأن زحمة السير منعتها من الوصول قبل الثامنة إلا عشر دقائق. عبثاً حاولت أن تدلّ الشاب إلى مقعدها الفارغ داخل المسرح، لكنه لم يستجب لتبريراتها ويفتح الباب. انفعلت قائلة أن هناك من أوصلها إلى المسرح وذهب، وهي لن تعود الى صيدا. مدخل "مسرح المدينة" ما زال موصداً بالأقفال. ما معنى تلك الجملة؟ ما معنى أن يوصد مدخل مسرح بالأقفال في بيروت، في مناسبةٍ استثنائيةٍ مثل المهرجان الأول للمسرح الوطني في لبنان؟

هذه الإتاحة التي وفرّها منظمو المهرجان مجاناً، والتي استقطبت إقبالاً جماهيرياً يُحتفى به، بدت منقوصة ولا قيمة لها أمام المشهد السوريالي للجدال الذي حصل بين بعض محبي المسرح العالقين في الخارج، وشباب تنظيم المهرجان القابعين في الداخل، والأبواب الزجاجية الموصدة  صامدة في حفلة الصراخ تلك.

إقفال الأبواب وإهانة من كان عالقاً في الخارج ليس تفصيلاً، وليس تدبيراً إدارياً اضطرارياً لا مهرب منه: المدخل الموصد أمام ناسه لا يستطيع الا أن ينفي ماهية المسرح في حد ذاته. ظهر من خلال هذا الفعل، وهذا الإصرار على إقفال مدخل المسرح لما يزيد عن نصف الساعة بعد الثامنة، أن المنظمين غير معنيين سوى بتأمين نصاب الـ450 كرسي بالإضافة الى 200 شخص يُحشرون على الأدراج، وسوى ذلك فليعد المنتظرون في الخارج من حيث أتوا.

لا يعنيهم مثلاً بناء رابط حقيقي مع الناس ومحاورة من وصل عند الثامنة إلا عشر دقائق، ومحاولة احتضان شغفهم بالمسرح عبر شرحٍ مفصل حول خطورة الدخول الى فضاء العرض على السلامة العامة مثلاً... السلامة العامة في المسرح التي لا نعرف عنها أي شيء في لبنان.

الأخطر من هذا، هو عدم ادراك من اتخذ قرار "إقفال بوابة مدخل مسرح"، لمعنى كلمة مهرجان ولأهمية المسرح كفضاء يتعدى فضاء العرض وفضاء الجمهور: المسرح هو حجة للذهاب الى ما هو أبعد من لحظة العرض والمتعة المتأتية عنها. المهرجان هو هذا المكان الذي يتيح التفاعل والرغبة في النقاش، والأخذ والرد والقبول والرفض، والإشتباك الفكري والإختلاف في الآراء بعيداً من سياق العروض. المهرجان هو جمهور اختار أن يجلس في مسرح المدينة من دون أن يدخل الى العرض، فهو معرض تكريم الراحل جلال خوري أيضاً. بالتالي هذا المشهد للمسرح الموصد بالأقفال، يحجّم أِثر تلك المبادرة بالغة الأهمية ويوحي بقطيعة وبعدم رغبة في التواصل إلا مع من "سبق وشمّ الحبق" لغاية واحدة، وهي مشاهدة العروض من دون الذهاب أبعد.

هكذا تبدى المهرجان الوطني للمسرح، مساء السبت الماضي، كمتراس آخر من متاريس "المدينة" الذي يقصي أي إمكانية للحوار، ويكرّس التصفيق والاحتفال بَطَلين لا ثالث لهما.

في اليوم التالي، حاول المنظمون تلافي هذه المشكلة. وزعوا بطاقات الساعة السابعة مساءً... خفف هذا التدبير، نوعاً ما، من وطأة فوضى التنظيم وحادث إقفال المسرح على ناسه، من دون أن يحلهما تماماً، إذ بقي عدد كبير من الناس من دون بطاقات، وبعضهم بقي في الخارج في جلبة لن يتم تجنبها الا من خلال تنظيم أكثر من عرض للمسرحية الواحدة، وعبر نظام الحجز المسبق قبل أسابيع من بدء المهرجان، مع بطاقات مرقمة ولوائح انتظار كما يحصل في أصغر مهرجان في هذه البلاد، وفي هذا كله احترام لوقت الجمهور وجهده. أما اليوم الأخير من المهرجان، فاختتم مساره بصدّ الأبواب مجدداً في وجوه الناس. أمسيتان صُدّت فيهما الأبواب أمام محبي المسرح الآتين من كل حدبٍ وصوب.

ليس الهدف من كل ما كُتب أعلاه، هو إطلاق نيران عشوائية على مهرجان لبنان الوطني للمسرح، لا سيّما أن حجم الموزانة التي رُصدَت غير معلومة، وكذلك الموارد التي أتيحت لإرساء تلك المبادرة. لذا وجب دعمها بشتى الطرق. وليس هذا المقال الذي كُتب مرتين، سوى محاولة للتصويب وللإشارة الى الثغرات التي تشوب تلك الفعالية بهدف تجنبها في الدورات المقبلة. وليس الغوص في حادث صدّ المسرح مرتين، إلا من باب التشديد على أنه من غير المسموح لأي مسرح أن يغلق مدخله بالأقفال بالطريقة التي تمّت مساء السبت: هذا المنطق يذكّر بمنطق العسكرة. اعتدنا أن تمنع الأجهزة الأمنية عروضاً مسرحية، ولم نعتد يوماً أن يوصد منظمو مهرجان أبوابهم في وجوه الناس، ولو كان الدافع هو السلامة العامة. كانت مؤسفة ومنفرة مشاهدة "مسرح المدينة" الذي شرّع أبوابه في حرب تموز، موصداً أمام محبّي الخشبة في المهرجان الوطني الأول للمسرح في لبنان.

جوانب مضيئة... لم تكتمل بعد!
ثمةً فرحة بهذا التهافت على المهرجان ولا يجب أن تفسدها فعلة "قفل أبواب المدينة" خاصةً وأن فكرة المهرجان بقيت على "دكة الإحتياط لسنوات طويلة" على حد قول مدير عام وزارة الثقافة علي الصمد. يستحق هذا الإقبال الفريد من نوعه دراسة حول الجمهور الذي اكتظت به مقاعد وأدراج مسرح المدينة: من هو هذا الجمهور وما هو الدافع الأول لقدومه؟ هل نجح المنظمون في استقطاب اللا جمهور أو الجمهور المبعَد عن المسرح؟ أم أنّ من حضر هم مجموع الأوفياء لمسارح بيروت مجتمعةً؟ 

طبعاً كانت خطوة موفقة جداً أن يتمّ إتاحة العروض المسرحية مجاناً ويُحسَب لوزارة الثقافة، التي تلقفت مبادرة الهيئة العربية للمسرح، أنها التفتت أخيراً لتعب كل الفنانين الذين يعملون  باللحم الحي ويتعبون لسنوات لتقديم أعمالهم المسرحية. الجوائز التي قُدِّمت أمس يتشاركها كل مسرحي لبناني لأنها تأتي بمثابة إعتراف واحتضان أتيا ولو بعد حين لكل نقطة عرق تسربت على أي خشبة من خشبات هذه البلاد. هنالك سعادة عارمة رغم كل شيء بنيل يارا أبو حيدر جائزة أفضل ممثلة عن دورها في مسرحية "البيت" (إخراج كاولين حاتم) التي حصدت أيضاً جائزة أفضل نص لكاتبته أرزة خضر، وبحصول غابريال يمين على جائزة أفضل ممثل عن مسرحية "حكي رجال" للينا خوري التي مُنِحت جائزة أفضل إخراج وغيرها. كذلك وجب تقدير مساعي المنظمين لتنظيم معرض حول جلال خوري في قاعة نهى الراضي ولتكريمهم للممثل أنطوان كرباج عبر إطلاق اسمه على دورة المهرجان وعبر منحه وساماً من رئيس الجمهورية. وليست النكتة التي أطلقها مدير المهرجان رفيق علي أحمد ليلة الإفتتاح حول زوجته التي استغربت اتصالاً حكومياً يبلّغ هذا الأخير أنه سيتم تكريمه قائلةً: “بعيد الشر عن قلبك..." سوى مثال على العلاقة التي تربط  الدولة بفنانيها: هي علاقة تأبينية لا أكثر تنتظر وفاة الفنان كي يتمّ تكريمه. من الواضح من خلال هذا المهرجان أن هنالك أخيراً سعيٌ لتبديل تلك الممارسات  وان كان يستحق أنطوان كرباج على الأقل فيديو فني عالي الجودة منتج خصيصاً لهذه المناسبة يليق بإنجازاته ويقدّم للجمهور جوانب لا نعرفها عن الفنان المحتفى به وليس ريبورتاجاً تلفزيونياً قديماً قامت بتنفيذه المؤسسة اللبنانية للإرسال. 

هنالك، رغم هذه الإيجابيات، بعض التساؤلات حول برمجة العروض وعددها المحدود بحيث يوازي عددها عدد الجوائز مما يقلّل من شأن المهرجان: سبع جوائز وسبعة عروض، عُرض معظمها لأكثر من مرة ومنها ما تم عرضه لشهور كاملة. ليس في الأمر تشكيكاً بمجمل الأعمال أو بجودتها، على العكس هنالك عروض رائعة وبعضها  قلّما عُرِض كعرض "وهم" لكارلوس شاهين وهنالك العكس كما في كل مهرجان،  ولكنه مجرد تفكير في استراتيجيات المهرجان الوطني وأهدافه: ماذا يريد ومن يستقطب؟ هل هو مهرجان موجه لجمهور المسرح الذي اعتادته خشبات بيروت أم أنه يبحث عن الجمهور المُبعَد أي اللا جمهور أم الإثنين معاً أم أنه يريد أن يحتفي فقط دون أهداف بعيدة المدى؟ إن كان يستقطب جمهور المسرح المعتاد أو المكرّس فلم يقدّم المهرجان أي جديد لهذا الجمهور باستثناء عرض أو عرضين لربما. وإن كان يسعى لإستقطاب -اللاجمهور أو الجمهور المبعَد- فمن الأجدى اذاً أن يتنقل بهذه العروض خارج أسوار المدينة. خاصة وأن أحد أهداف الإستراتيجية الثقافية التي أطلقها وزير الثقافة في السنة الماضية جعلت إحدى أهدافها تعزيز مبدأ اللا مركزية الثقافية. ألا يستحق، على سبيل المثال لا الحصر، المسرح الوطني اللبناني في صور الذي تمّ افتتاحه منذ فترة وجيزة بالتعاون مع وزارة الثقافة نفسها بعضاً مما قدمه مهرجان لبنان الوطني في بيروت؟ وإن كان هدفه الإثنين معاً أي التوجه للجمهور المكرَّس واستقطاب  المبعَد منه فكان الأمر يتوجب إيلاء بعض الأهتمام المتوازن لعروض تُعرض للمرة الأولى وحبذا لو تكون عروضاً لخريجين جدد. أين الفرص المتاحة للشباب في المهرجان وهل هناك من ثغرة لوجستية مثلاً حالت دون وجودهم؟ قد يكون من المفيد في الأعوام المقبلة، لأنه من الضروري التمسك بهذا المهرجان كجانبٍ مضيء يُعوَّل عليه للسنوات الآتية، تخصيص خانة في المهرجان للأعمال الأولى مع البحث في إمكانية دعم تلك الأعمال  مادياً. 

جانبٌ آخر كان مفقوداً في المهرجان، هو مساحة الندوات التي تطرح قضايا إشكالية في المسرح اللبناني وهي كثيرة وقلّما يتاح للعاملين في المسرح في لبنان أن يجتمعوا وأن يتناقشوا وأن يتحاوروا. فليكن هذا المهرجان منصة لقاء  وبحث حول تلك القضايا ولتكن أيضاً فرصة لإرساء نقاش جدي، بنّاء وشفاف بين القيمين على وزارة الثقافة وبين المسرحيين. فليكن هذا المهرجان حراكاً حقيقياً عضوياً لا يقتصر فقط على الإحتفال بالعروض. 

"ماذا لو...." السحرية!
ماذا لو فُتح فضاء المسرح على الشارع والمدينة، فعُرِضت شاشةٌ أخرى بالقرب من مقهى "دانكن دونتس"؟ ألن يكون في هذا التدبير إتاحة لكل الناس، حتى أولئك الذين لم يكن في بالهم المهرجان؟ ماذا لو، على تماس من "مسرح المدينة"، يُحتفى أيضاً بندوات خاصة في المكتبة الوطنية التي تمّ افتتاحها منذ أيام: ندوة تستكمل ما ورد في مطوية المهرجان حول تاريخ وحاضر الفضاءات المسرحية في لبنان، وما أقفِل منها الى غير رجعة، وما حُوِّل منها الى لائحة الجرد العام وبقي مصيره معلقاً، وما تحوّل الى حلم صعب المنال للبعض منا لبناء مسرح وطني. وندوة أخرى حول العودة الى النص على حساب الجماليات البصرية، أو الحركية التي كانت طاغية في السابق. وندوة حول المسرح وقدرته على كتابة تاريخٍ بديل. وندوة حول الرقابة المسبقة على المسرح في لبنان، وأخرى حول حقوق المسرحيين..الخ.

ماذا لو عكس المهرجان فعلاً دينامية وتنوع المشهد المسرحي في لبنان، بصفته أيضاً حاضناً للهويات والإثنيات المتعددة في المنطقة، بانياً "جسر تواصل"، كما ذكر مسؤول النشر في الهيئة العربية للمسرح غنام غنام، واستضاف العروض غير اللبنانية التي تُعرض في لبنان، خصوصاً أن عددها ليس بقليل. ماذا لو عُرِضت مسرحية "شبيك لبيك" لزينة دكاش، حيث الممثلات عاملات أجنبيات؟ ومسرحية الشاب الفلسطيني عوض عوض، "أيوبة"؟ وماذا لو عرضت فرقة "كون"، والتي تضم سوريين ولبنانيين وفرنسيين وفلسطينيين، مسرحيتها "الجانب الآخر من الحديقة"، والتي قدمتها بالتزامن مع فترة المهرجان؟

ماذا لو، في الدورة الثانية للمهرجان/ قُدّم بعض، أو كل العروض، خارج بيروت؟ ماذا لو، في الدورة الرابعة منه، قُدِّمت أوراق بحثية أو قراءات مسرحية لنصوص لم تُعرَض بعد على الخشبة؟ وماذا لو قدّمت جوائز لهذه أو لتلك؟ ماذا لو، في الدورة السادسة، يتم دعم إنتاج مقترحات عروض بغية تقديمها في الدورة السابعة؟ ماذا لو، في الدورة الثامنة، خُصصت مساحة لمسرح الطفل؟ ماذا لو؟ تلك الكلمة السحرية التي تشكل أصلاً من أصول الفعل المسرحي في حقبةٍ ما... لنُعد ترتيبها في شكل خريطةٍ، لنتمسك بمهرجانٍ وطني فيه من الدينامية والحماسة ما يجعلانه يتفوق على نفسه، عاماً بعد عام! 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها