الإثنين 2018/12/10

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

قناع من صحراء فلسطين

الإثنين 2018/12/10
increase حجم الخط decrease
في مؤتمر صحافي عُقد في "متحف روكفلر" في القدس، أعلنت مديرية الآثار الإسرائيلية العثور على قناع أثري يعود إلى تسعة آلاف سنة في نواحي احدى المستعمرات المقامة في شرق الخليل. اثار هذا الاكتشاف الجديد اهتمام المختصين بتاريخ الشرق الأدنى القديم، وأعاد طرح السؤال التقليدي: لمن يعود حق امتلاك هذا القناع الذي خرج من أرض تقع في الضفة الغربية؟ ألدولة إسرائيل، أم لدولة فلسطين؟

خلال المؤتمر الصحافي، تحدثت باسم مديرية الآثار العالمة رونيت لوبو عن هذا القناع الاستثنائي، وتعمّدت ان لا تفصح عن تفاصيل اكتشافه، فقالت إن المراجع العلمية وصلها خبر طرح قناع للبيع في الأسواق العاملة في تجارة الآثار، فتقصّت أثره، وعرفت أنه يعود إلى مواطن عثر عليه بالمصادفة في مطلع العام الحالي بينما كان يحفر في أرض مستعمرة معاليه هفار المقامة في "صحراء أراضي يهوذا الجبلية"، وتمكّنت من الوصول إليه، وتسلّمت منه القناع الذي كان ينوي بيعه. اكتفت الخبيرة بهذا القدر من الشرح من دون ذكر اسم هذا المواطن، ولم تُدلِ بأيّ إيضاحات أخرى.

هذا الاكتشاف ليس الأول من نوعه، فقد أحصى علماء الآثار أكثر من ثلاثة عشر قناعاً مشابهاً خرجت من هذه المنطقة، اكتُشف آخرها منذ خمسة وثلاثين عاما. دخل عدد من الأقنعة إلى المجموعات الخاصة، ودخل عدد آخر منها إلى المتاحف. وقد خرج أغلبها خلسة إلى النور، من دون تحديد مصدرها الأصلي بدقة، باستثناء قناعين منها. خرج القناع الأول من أرض بيسمون في وادي سهل الحولة، وهي في الماضي القريب قرية فلسطينية تقع في نواحي شمال شرق مدينة صفد. وخرج القناع الثاني من وادي همار في "صحراء يهودا" التي تمتد من ساحل البحر الميت إلى شمال القدس.

يدخل القناع المكتشف حديثا إلى هذه المجموعة الفريدة من نوعها، ويشكّل مادة استثنائية لدراستها، فهو يعود إلى أرض حُدّد موقعها بشكل جلي، وهذا الموقع يذخر بالقطع الأثرية التي تسمح بتحديد تاريخه بشكل عملي دقيق.

يعود هذا القناع إلى العصر النيوليثي، أي إلى العصر الحجري الحديث، وعمره تسعة آلاف سنة، وهو شاهد على انتقال سكان هذه المنطقة من زمن الصيد والقطف إلى عصر "الثورة الزراعية" التي شكّلت تحوّلا جذريا في أسلوب عيشه. في مقارنة مع القطع المماثلة له، يتميّز هذا الوجه بملامحه المرسومة بدقة متناهية، وهي ملامح تحاكي المثال التشبيهي الواقعي في نقش مساحة العينين والأنف، كما في تحديد الثغر ورسم أسنانه بإشارات محفورة. 
في الخلاصة، تشكّل أقنعة صحراء فلسطين صورا طقوسية تعبّر عن رؤيا خاصة تتصل بقوى الطبيعة وما وراء الطبيعة. خارج عالمها الأصلي، تبدو هذه الصور ضروباً من ضروب السحر والشعوذة، وهي في ذروة تجريديتّها، توقظ هذه القوى الرهيبة النائمة في أعماق النفس البشرية على مدى العصور.

هي أقنعة لوجوه تحدق بعيون غائرة ناتئة لا بؤبؤ لها، تذكّر الإنسان باقترانه الغرائزي بمحيطه الحي. أقنعة تدهش بطابعها الوحشي وتثير بتعبيريتها الصارخة. أقنعة تتميز بلغة فنية تجمع بين المفردات الهندسية الصافية والتقاسيم النزقة الحرة. أقنعة توحّد بين النحت الذي يُخرج الكتلة إلى النور لتسكن الفضاء بأبعادها الثلاثة، والرسم القائم على الرقش والحفر على المسافة المسطحة. أقنعة من الأزمنة الغابرة صنعها فنانو البشرية الأوائل تُماثِل في أسلوبها الاتجاهات الحديثة والمعاصرة، حيث الصورة لا تبحث في الشبه والمحاكاة بل في الرمز.

إثر الاعلان عن هذا الاكتشاف، أعاد الصحافي الإسرائيلي ايلان بن زيون طرح السؤال الذي يتكرّر منذ عقود حول الحقوق الخاصة بالاكتشافات الأثرية في هذه البلاد المقسّمة إداريا، وقال: "لمن يعود هذا القناع النيوليثي، لإسرائيل؟ أم لفلسطين؟". اكتشف هذا القناع في نواحي مستعمرة معاليه هفار التي تُعرف أيضا باسم مستعمرة بني حيفر، وهي مستوطنة تعاونية زراعية، أقامتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي سنة 1983 على أراضي بلدة بني نعيم (أم حلسة)، شرق الخليل. عُرفت هذه البلدة قديما باسم كفر البريك، حتى العهد العثماني، وقد مرّ بها الشيخ الأديب عبد السلام النابلسي في القرن السابع عشر، وقال في كتابه "الأنس الجليل بتاريخ القدس": "ثم ذهبنا إلى زيارة نبي الله لوط عليه السلام في قرية يقال لها كفر البريك، والآن يقال لها قرية بني نعيم بالتصغير وهي تبعد عن مسجد الخليل نحواً من فرسخ فدخلنا إلى الجامع الذي هناك وفيه قبر لوط قبالة الشباك".

في صيف 1991، صادرت سلطات الاحتلال الاسرائيلي نحو 3422 دونمًا من أراضي هذه البلدة الفلسطينية، كما صادرت نحو 4060 دونمًا إضافية في وقت لاحق لتوسيع هذه المستوطنة. نشأت بلدة بني نعيم فوق بقعة مرتفعة من جبال الخليل تمثل الحافة الشرقية لهضبة الخليل وتعلو 970 مترا عن سطح البحر، وهي تتألف من بيوت مبنية من الحجر أو من الاسمنت، ويتخذ مخططها شكلا مستطيلا يمتد في محور يحاذي الطرق المؤدية إلى الخليل، وفيها مساجد تزيد على ثمانية عشر مسجداً، أهمها مسجد لوط الذي تزينه لوحة حجرية مثبتة فوق بابه تحمل كتابة منقوشة يقول نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم. جدد عمارة مقام النبي لوط السلطان الملك الظاهر برقوق خلد الله ملكه".

في محاولة للإجابة عن هذا السؤال االذي طرحه ايلان بن زيون، قال العالِم في "مركز الأبحاث الأثرية" عمري بارزيلاي إن هذا الاكتشاف البالغ الأهمية يعود إلى منطقة تُعرف اليوم باسم "الضفة الغربية"، وهذا المنطقة تخرج بشكل عام عن نطاق عمل مركز الأبحاث، لكونها تقع خارج حدود "الخط الأخضر" الذي رسمته هيئة الأمم المتحدة، غير أن المتاجرة غير الشرعية بالآثار تدفع بمديرية الآثار للتحرّك سريعا لرصد القطع المطروحة للبيع بدافع الحفاظ عليها في الدرجة الأولى.

نشير هنا إلى أن مديرية الآثار الإسرائيلية أعلنت اكتشاف هذا القناع النيوليثي البديع في "متحف روفلر"، وهو المتحف الذي شرعت دائرة الآثار البريطانية  بتشييده سنة 1930 في القدس الشرقية، وافتتحته في 1938، وأطلقت عليه يومها اسم "متحف فلسطين للآثار". بعد نكبة 1948، دخل هذا المتحف تحت إدارة المملكة الهاشمية الأردنية إلى أن استولت عليه الدولة العبرية بعد هزيمة 1967، وأطلقت عليه اسم "متحف روكفلر"، نسبة إلى الثري الأميركي جون ديفيد روكفلر الابن، الذي تبرّع بمبلغ مليوني دولار لبنائه في العشرينات. وهكذا أضحى "متحف فلسطين للآثار" تابعاً لـ"متحف إسرائيل"، ومقراً لرئيس دائرة الآثار الإسرائيلية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها