الثلاثاء 2018/12/11

آخر تحديث: 14:35 (بيروت)

عيسى مخلوف... عن بسام حجار(*)

الثلاثاء 2018/12/11
عيسى مخلوف... عن بسام حجار(*)
‎الكتابة المثقّفة هي كتابة بسام حجّار، شعرًا ونثرًا، بحثًا وترجمة
increase حجم الخط decrease
(*) ثمّة لحظات من البَرق لا تزال تلمع في السماء المُظلمة لعالم عربي مُباح لكلّ نَهش. من تلك اللحظات، اليوم، صدور الأعمال الشعريّة الكاملة لبسّام حجّار، في طباعة أنيقة، وقد أعدّها وقدّم لها، بكثير من الموضوعيّة والحبّ، الشاعر العراقي علي محمود خضيّر، ومنحنا إيّاها كما تُمنَح الهدايا في الأعياد.

‎العائد إلينا عبر كلماته، بسّام حجّار، المُرفرف فوق كيانه جناح الغفلة، أخفى في داخله جبالًا شاهقة من العزلة، كما أخفى يقظة دائمة وأَرَقًا موجعًا.

‎إنّه الغريب الذي تراءى له الشَّجَن في كلّ شيء من حوله: الغيمة والشّجرة، الأواني المنزليّة والسّتائر، الشّرفات التي لا تفضي إلى شيء، وضوء النّهار، تلك العتمة الأخرى.

‎تبيّن له الشّجن أيضًا، وفي المقام الأوّل، في الكائنات التي لا تعرف من يتحكّم بمفاتيح حياتها وموتها.

‎الكتابة المثقّفة هي كتابة بسام حجّار، شعرًا ونثرًا، بحثًا وترجمة. وتجربته الشعريّة التي نهلَت من المُنجَز الشعري، شرقًا وغربًا، والمفتوحة على الشّعر والفكر والفلسفة، تتّكئ على الثقافة بما هي عنصر أساسي من عناصر الإبداع. وثقافته الواسعة هي التي ميّزت رؤيته للحياة والعالم.

‎كان بسّام حجّار يطفح بالغياب، أمّا الرّحيل فهو مكان إقامته الوحيد. كان يرحل فيما يكتب ويرسم بكلماته إشارات رحيله: "أعدكِ أن أنام/ أن أنتظر الصّباح المقبل/ وما يليه/ لكنّي مُجبَر على الرّحيل الآن".

‎"توجد النهاية في البداية ومع ذلك نتابع الطّريق"، يقول صموئيل بيكيت. ثمّة قوّة تتجاوزنا وتدفعنا إلى متابعة الطّريق، لكن بعضنا يشبه العصافير الغريبة التي تترك السّرب المسافر وتذهب لترتطم في الجدران.

‎لقد رأى بسّام حجّار ما يختبئ وراء القناع، وشعر بالغربة داخل الحلبة التي وجد نفسه فيها بالمصادفة، وقال: "المشقّة في قلبي لا في الطريق".

‎عرف أنّ الموت الذي يحوك قميصه في داخله هو ربّان السّفينة، وأنّ الحياة كلّها مجرّد تَنويع عليه. لذلك اختار أن يكتب بصمت، أن ينزوي في مكان بعيد ويكتب، حتّى وهو مُحاط بالبشر وبضرورة العمل المأجور والصّداقات العابرة.
‎يقول: "من هو مثلي لا ينتظر شيئًا ولا يرغب في شيء". 
‎تضجّ بالحرّيّة هذه الصّرخة التي تبدو جرحًا مستسلمًا طافيًا فوق الماء. الحرّيّة المُطلَقة! وهي تعبّر عن حاجة كاتبها القصوى إلى التحرّر من كلّ شيء حتى ممّا يربطه بالحياة نفسها، الحياة التي لا تشبهه.

‎عبارته صدى للعبارة التي كُتبت على شاهدة ضريح نيكوس كازانتزاكيس: "لا آملُ في شيء، لا أخشى شيئًا، أنا حرّ". والعبارتان تقولان لنا بوضوح كامل: من في قلبه هذا المقدار من الحرّيّة كان ينبغي أن لا يولد...

‎في لقاءاتنا في بيروت وباريس، أو في "بواتييه"، أو في "لوديف" الفرنسية قبل سنوات من رحيله، كنتُ أتساءل عن حاجة هذا الشاعر إلى كتابة الشّعر، وهو نفسه القصيدة والتّجسيد الحيّ لها. كأنّه بَلَغَ، على غفلة منه، ما حلم به المتصوّف والشّاعر الألماني أنجلوس سيليسيوس: "اذهَب وصِر أنتَ نفسك الكتابة والجوهر.

(*) مدونة للكاتب والشاعر اللبناني المقيم في باريس، عيسى مخلوف، في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها