السبت 2018/12/01

آخر تحديث: 13:34 (بيروت)

غوستاف مولر لـ"المدن":مكالمات الاستغاثة أطلقت صوراً ذهنية..صارت فيلماً

السبت 2018/12/01
increase حجم الخط decrease
يوم عادي في مركز الطوارئ الدنماركي. مُتّصِل في حالة اهتياج، بعد تعاطيه فِطراً مخدّراً، يتخيل موته الوشيك. آخر يطلب النجدة، بعدما سرقته مومس في الطريق. على مضض، يتعامل الضابط "آسغار" (جاكوب سيديرغرن) مع تلك المكالمات الهاتفية، راغباً في العودة من جديد إلى الشارع، كشرطي مكتمل، يتعامل مع الأشرار والخارجين على القانون. لكنه الآن مرميّ في وظيفة مكتبية، في انتظار التحقيق معه، صباح اليوم التالي، بخصوص تعامله العنيف مع أحد المشتبه فيهم في عملية سابقة. ثم فجأة، يأتيه عبر الهاتف صوت امرأة تقول لصغيرها إن ماما ستعود إلى المنزل قريباً وعليه أن يذهب إلى النوم الآن. بأسئلة ذكية وإدارة حوار لافتة، يكتشف آسغار أن المرأة موجودة داخل سيارة تجلس إلى جانب مختطفها. يضع الضابط، المأزوم في عمله وزواجه، كل شيء على المحك من أجل إنقاذ الأم المخطوفة. ما سيلي هو محاولة إنقاذ سريعة عبر الهاتف، مع تركيز الكاميرا حصرياً على وجه آسغار، الذي لا يعرف أكثر مما يعرف المشاهدون.


"المذنب"(*) هو الفيلم الأول للمخرج السويدي غوستاف مولر (1988، غوتنبرغ، السويد). باكورة سينمائية قوية، قائمة على فكرة بسيطة لا يمكن مقاومة جاذبيتها وأداء صلب ونافذ من بطلٍ حمل الفيلم على وجهه ونبرات صوته. إذا كان غودار رأى في الستينيات أن كل ما تحتاجه لإنجاز فيلم هو فتاة ومسدس، فإن "المذنب" يقوم بذلك بمكوِّنين بديلين: مكتب وهاتف.

أنجز غوستاف مولر فيلمه مع زملاء دراسته في المدرسة الوطنية للسينما في الدنمارك. بعد تخرجهم العام 2015، أرادوا، مثل كل الشباب الطموح، صناعة فيلم، لا أكثر. في أحلامهم العميقة، لم يتنبأوا بأن مشروعهم سيصير نجاحاً عالمياً يُعرض في أكثر من مئة دولة، ويحصد جوائز الجمهور في "صندانس" و"روتردام"، ومن المحتمل إعادة هوليوود إنتاجه في نسخة أميركية.

"المدن" قابلت المخرج الشاب للحديث عن فيلمه..


- قبل أي شيء، أودّ أن تصف لي ما تراه أمامك الآن؟

* أرى شاشة تلفزيون مسطحة كبيرة، جدران زجاجية، طاولة خشبية كبيرة، وأشجاراً.


-
أطرح هذا السؤال لأنه عندما أعود بذاكرتي إلى فيلمك، أرى صوراً ليست في الفيلم على الإطلاق. لقد استدعيتهم أنت بمحادثات هاتفية بحتةكيف جاءتك فكرة الفيلم؟

* الأمر كله بدأ في الإنترنت، حين استمعت إلى إحدى مكالمات الاستغاثة الموجهة إلى 112 (الرقم الخاص بشرطة الطوارئ والنجدة في الدنمارك) من طرف امرأة تعرضت للاختطاف، واستغربت من الصور التي خلقها ذهني منفعلاً بما سمعته. رأيت المرأة وخاطفيها والسيارة التي كانوا فيها. في الوقت نفسه، أدركت أن كل شخص آخر سيرى شيئاً مختلفاً عما رأيته إذا استمع إلى هذه المكالمة مرة أخرى. أردت ترجمة هذا الإحساس إلى فيلم. مثلاً، إذا أخذت معطيات فيلمي: امرأة مخطوفة في سيارة من قبل زوجها. أنا متأكد أنك رأيت امرأة أخرى وزوجاً آخر وسيارة أخرى أمامك غير ما تصوَّرته. وجدتُ في ذلك نقطة بداية مثيرة للإهتمام لصنع فيلم، أن أستخدم خيال المشاهد كأكثر قيم الإنتاج أهمية.

- ومتى عرفت أن هذه الطريقة ستؤتي أكلها؟

* عندما جلست في غرفة طوارئ حقيقية مع شريكي في كتابة السيناريو، إميل نايجارد ألبرتسِن. حضرنا عدداً من المناوبات الليلية هناك، بعد موافقة السلطات الدنماركية. بعض المحادثات التي سمعناها، انتهى به المطاف حرفياً في الفيلم، لا أعني قصة الخطف بالطبع، لكني أتحدث عن المكالمات الهاتفية التي تأتي من أناس ثملين أو مخدَّرين ويتوهّمون أشياء. ثم فجأة، يأتي على الخط شخص حياته في خطر بالفعل.

الباقي، لا أستطيع أن أقول الكثير عنه، بدافع الاحترام، لأن ما سمعناه هي أمور خاصة بالطبع، لكننا سمعنا أشياء صادمة بشدّة. كانت السمّاعات في آذاننا، واستمعنا إلى تلك المحادثات الحميمة للغاية، وهو ما أثّر فينا كثيراً. لكننا نظرنا إلى رجال الشرطة، الذين كانوا يجلسون إلى جانبنا، ولم نرَ تأثراً مماثلاً، أو قريباً منه على أي نحو. بعد مثل هذه المكالمات الهاتفية، كانوا (الضباط) يعودون مرة أخرى إلى تصفح فايسبوك أو مشاهدة مباريات كرة القدم.

أفهمُ ذلك، لأنك إذا سمحت لكل هذا البؤس بالدخول إلى أعماقك، فستتحطّم بالتأكيد. كذلك، هم يجب عليهم بالطبع أن يظلوا محترفين، وتجنب المشاركة هو جزء مهم من وظيفتهم. هذا أيضاً ما يدور حوله فيلمنا: عن المسافة التي تقطعها كشرطي. لأنه في محاولاته لإنقاذ المرأة، يذهب آسغار إلى أبعد مما ينصّ عليه البروتوكول. في أفلام هوليوود، عادة ما يكون هذا سبباً لتصدير شخص ما كبطل، لكن في فيلمنا ليس من الواضح ما إذا كان يتصرف بشكل صحيح أم لا.


- على ذكر هوليوود، هل سنرى نسخة أميركية من فيلمك في المستقبل القريب؟

* (يضحك) مَن يدري؟! حين ذهبت إلى أميركا لعرض فيلمي هناك، سمعتُ كلاماً عن ذلك، ومازحني أحدهم بقوله "لا تقلق، ستصير غنياً". لكن، حتى الآن، يظل الأمر كله في نطاق التكهنات. أعتقد أن أي إعادة إنتاج سينمائي لا بدّ أن تضيف شيئاً جديداً. إذا كانت لغة الفيلم هي التي ستتغيّر فقط، لا أرى أي سبب لعملها.

قرأتُ أنك استلهمت من فيلم "دوغ داي أفترنون" لسيدني لوميت..

* أشاهد الأفلام بكثرة، لذا فقد شاهدت الكثير من أفلام المكالمات الهاتفية، مثل "لوك" (2013) بطولة توم هاردي كمقاول بناء وزوج خائن، و"فون بوث" (2003) مع كولن فاريل كمدير علاقات عامة وزوج خائن أيضاً، يتصل من أحد أكشاك الهاتف. بعض هذه الأفلام الهاتفية جيد للغاية، لكننا لا نسمع سوى صوت المتحدث على الجانب الآخر من الخط. لا نسمع الجو والبيئة المحيطة: خطى في الخلفية، طرق على الباب. الأصوات التي تجعلك تنشئ صورك بنفسك.

في الغالب، تحمل تلك الأفلام بعض تقلبات الحبكة (twists). بصراحة، أنا لا أحب هذه التقلبات. إنها غالباً ما تعطيك الشعور بأن كل ما رأيته من قبل لم يعد مهماً بعد الآن. لكن هنا التحول يأتي من الشخصيات. ليست يد الله هي التي تتدخل. أعتقد أيضاً أن "المذنب" يكتسب معنى أكبر عندما تشاهد الفيلم للمرة الثانية.

هناك أيضاً الأفلام التي تدور في مكان واحد، مثل "12 رجلاً غاضباً" و"دوغ داي أفترنون". هذا الأخير يستند إلى حادثة حقيقية لسرقة بنك، ولوميت هنا يعرف كيف يحافظ على كثافة الشعور طوال الفيلم. هناك محادثة هاتفية مطولة يقوم بها آل باتشينو في الفيلم. صوّر لوميت اللقطة المثالية من أول مرة، لكنه طلب من باتشينو القيام بالمحادثة مرة أخرى، ولم يأخذ سوى تلك اللقطة الأخيرة. لماذا؟ لأن الإرهاق أصبح مرئياً، الغضب الحقيقي. يستفيد لوميت أيضاً من الجو، وهذا مصدر إلهامي الأساسي منه. هو استخدم حراراة الصيف والعرق، وأنا استخدمت المطر وصوته. صوت المطر واحد من أفضل الطرق لخلق شعور لدى المشاهد. ليس عليك سوى سماعه لتتواجد هناك. هناك أصوات مختلفة للمطر في فيلمي: قوي وصاخب في البداية، ثم تتغيّر شدته إلى أن يصبح هادئاً وحزيناً في النهاية. إنها طريقة رائعة لإحاطة المشاهد بالصوت.

أراد صانعو الأفلام الأميركيين في السبعينيات تحدي الجمهور وتسلّيته. هذا جعل أفلامهم شعبية جداً، حتى الآن. في كثير من الأحيان، كانت أيضاً بورتريهات شخصية ممتازة. هذا هو نوع الأفلام التي أرغب في صنعها.

- نعود إلى طريقة معالجة المعلومات والمعطيات في الفيلم. كيف تعاملت مع ذلك؟

* أعتقد أنه من المهم تقديم معلومات حول ما يجري بالضبط، لكن بالتأكيد ليس كل شيء. بهذه الطريقة تمنح المتفرجين مساحة لتشكيل صورة بأنفسهم. كان أحد مصادرنا الرئيسية للإلهام سلسلة "سيريال"، وهو بودكاست عن جريمة/حالة قتل حقيقية. في كل حلقة، تُقدَّم أجزاء جديدة من المعلومات، بحيث تتغير دائماً تصوراتك وصورك عن المشتبه فيهم والمواقع. نحن أيضا أردنا ذلك مع "المذنب".

- بالنسبة اليّ، يبدو فيلمك تفكيكاً للصورة الكلاسيكية عن بطل الأفلام البوليسية. مثل هذا البطل الذي يتبع الحدس، لا القواعد، وربما يكون عنيفاً للغاية.

* بالضبط، هناك ذلك النموذج السينمائي للضابط الذي يتعارض مع القواعد، ومن الواضح أن آسغار لديه الشيء نفسه. ومن ناحية أخرى، هناك نماذج من الخاطفين والمختطفين. كنا نريد استدعاء تلك النماذج في أذهان المشاهدين في بداية الفيلم، ثم أردنا تحويلها رأساً على عقب لخلق شيء أكثر أصالة، منطقة شفق أخلاقية.

يبين الفيلم كيف يمكن أن تؤثر وتتواجد مثل هذه النمذجة في الحياة الحقيقية..

* يرى آسغار نفسه، بمعنى ما، بطلاً في فيلم بوليسي. وفي القرارات التي يتخذها، ترى أنه يقسِّم الآخرين أيضاً إلى نماذج وأنماط. لا أتصور أنني أفضل من معظم الناس في هذا الصدد. أنا فقط متحيّز. لكن إذا كان عليك، مثل آسغار، أن تصدر حكماً أو تأخذ قراراً سريعاً على أساس القليل من المعلومات، فإن هذه الأحكام المسبقة تكون فرصتها في القدوم أكثر وأكثر.

تركِّز الكاميرا على آسغار طوال الوقت، ما يجعل اختيار الممثل الصحيح للدور أكثر أهمية. لماذا اخترت جاكوب سيديرغرن؟

لأنه، كما قلت، ممثل رائع. أتذكر أنني رأيته في فيلم منذ عشر سنوات فقط. كنت لا أزال في أكاديمية السينما، ثم قررت أنني أريد أن أصور فيلماً معه. كان أحد الممثلين السبعة في لائحتي القصيرة لأداء الدور. تركتهم جميعاً يجلسون وراء سماعة الهاتف لأنني أردت أن أرى من الذين ستكون مشاهدته مثيرة للاهتمام أثناء جلوسه هناك. مع جاكوب، حصلت على ذلك الإحساس على الفور. هناك دائماً شيء ما يحدث في عينيه، هو دائماً كما لو كان يمسك بشيء ما، يبقيه غامضاً. كان ذلك ضرورياً، لأنه إذا أجبرت المتفرج على النظر إلى شخص ما لمدة تسعين دقيقة، فيتعيّن عليك ألا تكشف حقيقته بعد مرور نصف ساعة فقط.

-هل تحدث جاكوب حقاً مع الممثلين الذين نسمعهم في الفيلم أثناء التصوير؟ وكيف سار العمل؟

بالتأكيد. لقد سجلنا الفيلم في وقت قصير جداً (13 يوماً)، واعتمدنا لقطات طويلة. أقصرها كانت مدته خمس دقائق، أما أطولها، وفيها يتلقى أو يجري اتصالاً، فكان 35 دقيقة. كنت أجلس في غرفة أخرى مع الممثلين الذين اتصلوا به. لم أتمكن من توجيهه خلال تلك اللقطات الطويلة، لكن ظلّ في إمكاني التأثير فيه من خلال الممثلين الآخرين: أطلب منهم الضغط عليه بقوة أكبر، أو مجرد الانتظار لفترة قبل أن يردّوا على اتصاله، لإخراجه من التوازن. أحياناً كنت أطلب منهم الاتصال به بشكل غير متوقع، ليقوم جاكوب بالإرتجال. كنت أريده أن يشعر بحقيقية ما يفعله قدر الإمكان. وهذا هو السبب في أننا لم نقم ببروفات مسبقة. لم يكن مسموحاً لجاكوب ولا أي من ممثلي الصوت بمناقشة أي شيء معي، ولا حتى بين أخذ اللقطات. لا ينبغي أن يكون هناك اتصال خلاق بينهما. أردتُ أن تكون التجربة طازجة وأصيلة.

هذا يبدو ثقيلاً . أيضاً يذكرني قليلاً بفيلم "سكريم"، حين أبقى المخرج ويس كرافن الرجل ذا الصوت الهاتفي المخيف خارج مكان التصوير، بهدف إبقاء ممثليه خائفين قدر الإمكان.

* إنه كذلك بالفعل. عادةً ما تقوم بتصوير جملة واحدة، ثم تكون لديك لقطة بكاميرا أخرى، أما نحن فكنا في بعض الأحيان نصوِّر لمدة نصف ساعة متواصلة. كان الأمر صعباً على الجميع. ليس فقط بالنسبة إلى جاكوب، لكن أيضاً للممثلين الآخرين والمصورين. ربما ليس بالشدّة نفسها، لكن بشكل أو بآخر، الجميع شعر بذلك. لكن هذه الشدة تكفل لك تركيز الجميع طوال الوقت وأداء دوره بأفضل مما تتوقّع. لقد كان إنجاز هذا الفيلم حفلاً حقيقياً.

أما بخصوص ملاحظتك عن فيلم ويس كرافن: لم أكن أعرف ذلك. سوف أسرق ذلك وأقول في كل مقابلاتي المقبلة إن "سكريم" كان مصدر إلهام مهم بالنسبة اليّ.

(*) عُرض "المذنب" في القاهرة ضمن فعاليات النسخة الحادية عشرة من "بانوراما الفيلم الأوروبي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها