السبت 2018/11/24

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

"وداعاً حلب": وثيقة تتحدث.. رغم "نظريات" الممانعة

السبت 2018/11/24
"وداعاً حلب": وثيقة تتحدث.. رغم "نظريات" الممانعة
مشاهد الفيلم قيامية الطابع، الأحياء مدمرة، تكثر فيها الأنقاض
increase حجم الخط decrease
"سلام عليك يا حلب". كانت هذه هي العبارة الختامية للفيلم الوثائقي "وداعاً حلب"، الذي فاز قبل أيام بجائزة "إيمي" للوثائقيات، وهي الجائزة العالمية الرابعة التي ينالها الفيلم. يقولها شاب له من العمر 22 عاماً وهو يسجل كلماته الأخيرة قبيل التوجه إلى معبر الراموسة، حيث تجمّع أهالي شرقي حلب إلى جانب مقاتلي المعارضة لمغادرة المدينة. 

كان ذلك في الشهر الأخير من العام 2016 حين سيطر النظام وإيران والميليشيات الشيعية الموالية (بحسب وصف الفيلم نفسه) على شرقي حلب. آنذاك، كلّفت "بي بي سي" أربعة صحافيين سورييين من أهل المدينة، هم سراج الدين العمر، وباسم أيوبي، وأحمد حشيشو، ومجاهد أبو الجود، لإعداد فيلم يروي الأيام الأخيرة للمدينة المحاصرة.

في مشهد ختامي يقول سراج من حي صلاح الدين المدمر: "هذا هو الحي والشارع الذي ولدت فيه. هنا أول بيت سكنت فيه. هنا بيوت خالاتي وأعمامي، وهنا تعرّف أبي بأمي. هنا خرجنا في المظاهرات، هنا استشهد شبان أمامي أثناء التظاهر. لي في كل شبر ذكريات. لم أخرج من هذه المدينة طوال حياتي. سأخرج، وأدعو الله أن أعود إليها". يقول الشاب كلماته ثم يترك الحي وراءه ويمضي.


فحوى كلام سراج سيجدها مشاهد الفيلم في كل شخصياته وتفاصيله. إنها مدينتهم وبيوتهم وذكرياتهم، والفيلم يضعها دائماً مقابل القصف العشوائي المتكرر للمدينة بالبراميل، مع الإشارة  بالاسم إلى تلك القوات الهمجية الغريبة التي جاءت تحتل شوارعها، وتقضم أحياءها واحداً بعد الآخر.

مشاهد الفيلم قيامية الطابع، الأحياء مدمرة، تكثر فيها الأنقاض، ولا يسجل مرور الكاميرا في الشارع ما يوحي بأن المدينة تضم فعلاً مئتي ألف شخص. فالقصف لا يترك فرصة للناس للخروج إلى الهواء الطلق. الناس أمام الكاميرا أقرب إلى أشباح، عابرين كالبرق في فسحة القناص، أو أنهم ذاهلون تماماً، تائهون، حتى أن أحد محققي الفيلم يشير فعلاً إلى وجوه الناس وحيرتهم وغموض مصائرهم.

الأقسى تماماً هو مشاهد النزوح. كلما اشتد القصف، خرج الناس من آخر حصونهم فزعين، جماعات، عائلات، نساء يشددن على أيدي أطفالهن. بدا واضحاً أن ضحايا القصف ما هم إلا هؤلاء المدنيين، وهي بالتالي مشاهد تثبت أن حرب النظام لم تكن إلا على شعب أعزل، والدليل أن نصف السوريين خارج بيوتهم ومدنهم وقراهم.

وثائقي "وداعاً حلب" لا يروي فقط حكاية انقضاض النظام على شرقي المدينة، وهو رائع لناحية التأريخ لذلك المفصل المهم، فصنّاع الفيلم يحكون حكايتهم أيضاً متوجهين للكاميرا، فهم شبان كبروا في ظلّ الثورة على الطاغية، خرجوا بتظاهرات سلمية، ثم شهدوا المصير المروع الذي مضت إليه البلاد. بعضهم يلقي باللوم على المجتمع الدولي الذي خذل السوريين، لكنهم في المقابل لا يترددون في نقد التطرف والفرقة، بل إن أحدهم لا يخجل من الإشارة إلى والده الذي تحوّل إلى التطرّف. سينتهون إلى شعور قاس بالخيبة، وسينضمون في النهاية إلى باصات النازحين عن المدينة على معبر الراموسة.

ولأن الفيلم شهادة جديدة على إجرام النظام السوري وحلفائه بحق السوريين فقد كانت لـ"نقّاد" الممانعة حملتهم على الفيلم. إذ تزعم كاتبة (زينب حاوي- "الأخبار" 20 نيسان 2017) أن الفيلم "لم يتوان عن توظيف متعمّد للأطفال بما يخدم سياسة المحطة (بي بي سي)"، مع العلم أن الأطفال ليسوا موضوعاً في الفيلم، وإن ظهر ثلاثة أطفال يحكون بشكل عابر ما حدث معهم بعبارات قليلة، أو أنهم يختصرون المشهد، إذ يقول طفل بإيجاز شديد، رداً على سؤال حول ما يحدث، هذه الحقيقة البسيطة: "عم يرموا براميل".

كما يعرض الفيلم طفلة أخرى تقول كيف روّعت عندما رموهم في الليلة السابقة بالكلور. تحدثت عن عدم القدرة على التنفس، ثم حكت عن رغبتها في تفاحة كبيرة، في ظل الحصار والتجويع. وفي لقطة أخرى ظهرت طفلة تحكي كيف قصف بيتها وكيف وجدت نفسها في المشفى بعد غياب عن الوعي. كانت هذه واحدة من لقطات الفيلم الجميلة، إذ بدت الطفلة كأجمل ما يكون بشالها الوردي، في محيط رمادي تماماً، في محيط غير وردي بالمرة.

فوق ذلك يبتكر "نقاد" الممانعة نظرية جديدة اسمها "مسرحة الواقع"، معتبرين أن الكاميرات والهواتف الذكية المتطورة بدلاً من "توثيق ونقل للواقع"، تقوم بـ "صناعته درامياً"! هذه العبارة الأخيرة تستخدم هنا للإيحاء بتزوير المشهد أو اختراعه عن طريق التكنولجيا العالية. لكن من الواضح أن مشهد الحرب والدمار الفظيع الذي لحق بحلب، وسواها من المدن السورية، أكبر من أن تخترعه كاميرا، وأوضح من أن تنكره صحيفة. تلك "الدراما" صنعها توحش النظام.

أما التشكيك في شهود العيان، والنظر إليهم كظاهرة مخترعة ومدسوسة فإن كل ما روتْه الفيديوهات السورية هو بالفعل لشهود عيان، مواطنين حولتهم حرب النظام الرهيبة إلى صحافيين يروون حكايتهم، بعضهم قضى أمام عدسات الكاميرا وهو يحكي حكايته، وقد يكون الممانعون على حق عندما يرون أنهم ليسوا على الحياد، فهم لم يكن لديهم هذا الترف، فبين الجلاد والضحية، كان هؤلاء هم الضحايا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها