السبت 2018/11/24

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

أدب مشرّد: كريستيان باج وصحبه

السبت 2018/11/24
أدب مشرّد: كريستيان باج وصحبه
الصحافة تحتفل بتحوّله من مشرّد بلا بيت، إلى كاتب، كما لو أنه نموذج النجاح الفردي
increase حجم الخط decrease
ثمة شتاء قارس يزحف صوب باريس، وها هي تنسحب إلى الداخل للاحتماء منه. وفي طريقها إلى ذلك، تغلق أبوابها في وجوه ثلاث آلاف شخص ينامون في شوارعها لأنهم بلا بيوت تؤويهم. لكي توصد تلك الأبواب جيداً، تطلق خطلها في اتجاههم، وخلاصته انهم يستحقون ما هم عليه لأنهم لا يفتشون عن عمل أو لأنهم مدمنون أو لأنهم اجانب أو لأنهم زعران أو لأنهم متوحشون أو لأنهم مجرمون. فعلى متن هذه التصورات، يصير من الممكن التعود على المرور بقربهم كأنهم ليسوا موجودين البتة، وفي حال التنبه إليهم، الإسراع إلى إبعادهم.

لكن، وفي أثناء الضبضبة العنيفة هذه بحقهم، يغرّد واحد منهم في حسابه في "تويتر" دفاعاً عن جماعته. يخبر عن هذا الرفيق أو ذاك الذي قضى نحبه بسبب البرد، أو يشير إلى أن التضاريس المستحدثة على هذا الرصيف أو في تلك الساحة تحاول أن تطردهم. فلكي لا يناموا على هذا المقعد، جرى تزويده بشكل حديدي معين، ولكي لا يفترشوا حوض الزرع هذا، جرى إنبات الأشواك فيه.

فهناك حرب هندسية على مَن لا بيوت لهم، بحيث أن المدينة، ورغم اتساع فضائها، تضيق بهم، وتسعى إلى نفي مرئيتهم بالمطلق. هذا الشخص يدعى كريستيان باج، ولم يكتف بنشاطه في "تويتر، الذي شرع به في العام الماضي. لكنه أصدر مؤخراً كتاباً يتحدث فيه عن تشرده، الذي امتد أكثر من ثلاث سنوات، قبل أن ينتهي بانتقاله إلى غرفة بمساعدة إحدى المنظمات الاجتماعية.

وفي هذا الكتاب، الذي حمل عنوان "بيلفيل في القلب"، والمقصود هو حي بيلفيل في الدائرة العشرين، حيث كان يمضي قسطاً كبيراً من وقته، يتحدث باج عن دواعي تشرّده، وعن يومياته التي تدور غالبيتها حول صعوبات تعترضه عند قيامه بأفعال صغيرة، كالاستحمام أو غسل ثيابه أو تدبر طعامه، لا سيما عندما تتطلب منه الانتقال مسافات طويلة. كما يتحدث باج، وبلا أي مبالغة درامية، بل بحسٍّ فكاهي، عن صحبه. وهم، إما بلا بيت مثله، أو أناس اعتادوا مصادفته في الطريق، مشدداً على كون المشردات الأكثر عرضة للقسوة نتيجة الاعتداءات المتكررة عليهن من المارة. في النتيجة، يروي باج حكاية عالمه الذي بالكاد يعرفه أحد، أو بالأحرى بالكاد يريد أحد ذلك.

لقد استقبلت الصحافة باج باحتفاء، وفي الكثير من الأحيان، تظهر كأنها تحتفل به بسبب مثابرته على التحول من مشرّد بلا بيت إلى كاتب، كما لو أنه نموذج النجاح الفردي. الأمر الذي يعيه باج، ويجعله دائماً في موضع الإحالة إلى صحبه الذين بقوا في الشوارع، والذين لم يبتسم لهم حظ الانتهاء من الصقيع الذي يكسر عظامهم. على أن تلك الصحافة تخطئ عندما تلمح إلى أن باج هو أول المشردين الذين ألّفوا ونشروا. فثمة الكثير من الكتب التي دبّجها مَن هم بلا بيوت، في باريس أو في سائر أنحاء البلاد، حيث يبلغ عددهم حوالى مئتي ألف، يموت ألفان منهم سنوياً على الأقل.

دومينيك رغييري، مثلاً، أمضى وقتاً طويلاً في كتابة حكايته على أوراق، قبل أن يعينه أحد المارة على طباعتها وتوزيعها. وفي المطاف ذاته، أمضت إيلينا دومون 15 عاماً في الشارع قبل أن تصادف الكاتبة ماري ديبليشن، التي طلبت منها العمل كحاضنة لأطفالها، وحثّتها على التأليف، وبذلك، أصدرت مسرحية عما عاشته طوال سنوات. وتماماً، كما في حالة دومون التي صادفت ديبليشن، كذلك صادف جان-ماري روغول في الشانزليزيه وزير الداخلية السابق جان لوي دبري الذي طلب منه أن يراقب دراجته الهوائية أثناء توجهه إلى المقهى. وعندما عاد، دردش معه واتفق وإياه على تسجيل تجربته التي امتدت أكثر من عشرين عاماً، في كتاب، سرعان ما أصبح من الكتب الأكثر مبيعاً.

واللائحة فعلياً غير قصيرة: آن لوريان وكتابها "أعوامي البربرية" الذي ألّفته بمساعدة الصحافية مينو ازولي. كلود أويي وكتاباه "عشرة أيام، تسعة ليال"، و"الانحدار من الجحيم"، اللذان يروي فيهما حكاية تشرده، مع الإشارة إلى أن أويي هو اليوم من الموالين  للجبهة الوطنية، بحيث يدافع عن المشردين ضد اللاجئين!

أنطوني الينو وكتابه "لا أحد يعرف أبداً" الذي صدر العام الماضي. بالإضافة إلى فريدريك دويم وكتبه التي تدور في أغلبها حول ما كابده في الطرق. وهو ما زال، في كثير من الأحيان، ولكي يؤلف نصاً جديداً، يحمل خيمته وينزل إلى الشارع، فهو "متسكع نشيط" كما يصف نفسه، ولا يمكنه أن يعيش بعيداً من العراء كثيراً. من الممكن إطالة هذه اللائحة حتى تشكل ما يمكن تسميته "أدب بلا بيت"، أو "أدب مشرد"، وهو يتطرق إلى عيش المشردين، الذين، وفي وقت مجيء الشتاء، يغدو انسحاب باريس أمامهم إلى الداخل كأنه ينم عن إصابتها بجليد الوهن. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها