الجمعة 2018/11/02

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

البخاري في المتحف البريطاني.. كيف تضع الإسلام في غرفتين

الجمعة 2018/11/02
البخاري في المتحف البريطاني.. كيف تضع الإسلام في غرفتين
من مقتنيات الجناح الاسلامي في المتحف البريطاني
increase حجم الخط decrease
وصلت المعروضات الأولى من فنون العالم الإسلامي إلى المتحف البريطاني، حين آلت مقتنيات السير هانز سلون إلى "الأمة البريطانية" بعد وفاته العام 1753. وكان من أهم المقتنيات التي تركها طبيب الأرستقراطية الإيرلندي وراءه، والتي تجاوزت الـ71 ألف قطعة من أرجاء العالم وثقافاته، مجموعة من التعاويذ والأحجبة باللغة الفارسية. وتضمنت قطع المجموعة آيات قرآنية، تولى ترجمتها له من العربية إلى الإنكليزية في العام 1733، سليمان ديالو، أحد العبيد المسلمين الذين جلبوا من بلاد بوندو (السنغال). وكما أن تلك القطع الأولى أسبغت قدراً من السحرية ذات الصبغة الدينية، فإنها وحّدت أيضاً تصورات عن عوالم عديدة من فارس إلى غرب أفريقيا، قسراً، تحت شارة "الفن الإسلامي".
 
ومع تمدد الإمبراطورية، كان للمتحف اللندني أن يكون مرآة لعظمتها، وتسارعت وتيرة مراكمته للمقتنيات المجلوبة من المستعمرات وخارجها أيضاً. ففي العام 1885، على سبيل المثال، شارك العسكري والإداري الاستعماري البريطاني، السير تشارلز يات، في عملية تدمير منائر أحد مساجد "هيرات" التاريخية، لأسباب "استراتيجية". ولاحقاً أهدى "يات" قطعاً من الفسيفساء المزججة التي جمعها من ركام المسجد، إلى المتحف في لندن. وقبله، وبطريقة اقل تخريباً وعلنية، كان السير ريتشارد بيرتون قد ذهب متخفياً في رحلته الشهيرة للحج، العام 1853، وعاد ليمنح المتحف قنينة معدنية مملؤة بماء زمزم. 

لكن معضلة المقتنيات "الإسلامية" التي تتجاوز 100 ألف قطعة في مخازن المتحف البريطاني وقاعاته، لا تعود فقط إلى أشباح الماضي القاتم المتعلق بها، بل بتصنيفها بالإساس. فمنذ أن وضع "المعرض العظيم" في لندن العام 1851، نماذج من المقتنيات الإسلامية في قسم "الفنون الحرفية" ليميزها عن "الفنون الجميلة" الغربية، ظل يتردد السؤال حول تصنيفها الأدق من حيث الجماليات. وكما أن فنية "الفنون الإسلامية" كانت موضوعاً للشك، فإن إسلاميتها أيضاً ما زالت مدعاة للحيرة: فما هي محددات "الإسلامي" في فن ما، أو مقتنى بعينه؟

خلال الشهر الماضي، افتتح المتحف البريطاني جناحه الجديد لمقتنيات "العالم الإسلامي"، في قاعتي 41 و42، ليعيد مواجهة الأسئلة نفسها. فالجناح الذي جرى العمل عليه أربعة أعوام، بفضل منحة سخية من مؤسسة البخاري الماليزية، وصفته مجلة "أبوللو" في عنوان تغطيتها بإنه "إعادة تفكير في الفن الإسلامي"، بينما أشارت إليه جريدة "فايننشال تايمز" بأنه "حديقة الأزمنة" التي "ستغير فهم الكثيرين للإسلام والعالم الإسلامي". وبلا شك فإن الجناح الجديد، يستحق كل هذا، ومعه وصف "الإيكونيميست" له بأنه "انتصار"، على أكثر من مستوى.

فالجناح القديم للعالم الإسلامي، الذي كان يقع في مؤخرة المتحف، بإضاءة كابية وتنسيق باعث على الملل، كان يركز على مقتنيات من منطقة الشرق الأوسط، وربما يرجع ذلك التركيز إلى مصادر تمويل الجناح، والتي جاءت في معظمها من دول خليجية. أما الجناح الجديد، "غاليري مؤسسة البخاري"، فلعله، وبسبب تمويله من كوالالمبور، فتوسع في تعريف "الظاهرة الإسلامية" عالمياً. فالخريطة التي تقابل الزائر في مدخله، تغطي بقعة جغرافية هائلة الاتساع تمتد من جنوب أوروبا وشرقها، وغرب أفريقيا ووسطها، إلى أقصى الأرخبيل الإندونيسي وقلب صحاري الصين، إلى حدود سيبيريا. ولا يكتفي الجناح الجديد بالتمدد في المكان، وبعرض مقتنيات أفريقية ومن جزر الملايو وغيرها، بل يتعامل أيضاً مع الزمن بشكل أكثر حساسية ونقدية. تكشف المعروضات عن مخططات للتلاقح التاريخي، وتأكيداً على عمليات التمازج والاستيعاب والتجديد التي انخرطت فيها المجتمعات والدول المسلمة مع الديانات الأخرى والثقافات السابقة والجارة. فالغاليري يحتوي على مقتنيات بيزنطية ومشربيات خشبية من كنائس قبطية وكذا تصاميم أرمينية للفيسيفساء العثمانية، وأدوات مقدسة ترجع إلى كُنُس يهودية، كما عرض نقوش ومنحوتات من ممالك يمنية قبل الإسلام، وتحف أوروبية قلدت أو استلهمت الفنون المملوكية في مصر أو بضائع نقلها "الفايكنغ" من ممالك الشرق أو إليها.

وكما أن القسم المعنون "أديان" من الجناح، لم يقتصر على الإسلام فقط، ففنون "الخط" لم تقتصر على العربية. وكما شملت المعروضات جماليات الأشياء اليومية، كمشربيات القُلل المصرية، فإنها تضمنت أعمالاً لفنانين معاصرين. فجنباً إلى جنب مع عمل البريطاني، إدريس خان، عن رمي الجمرات، المعنون "21 حجراً"، عرض عمل للفنان اللبناني رائد ياسين، يصور مشاهد من الحرب الأهلية اللبنانية على الخزف، بينما كانت خمس مشربيات خشبية للفنان السعودي، أحمد عنقاوي، تغطي الشبابيك الضخمة للجناح.

لكن وبالرغم من التصميم الديناميكي للجناح، وطرق عرضه المتنوعة بين أقسام مراحل تاريخية بعينها، ومناطق جغرافية ومدن محددة، وتيمات تضم مقتنيات من أزمنة ومناطق مختلفة، فإن الجناح الجديد لم يتصدّ حقاً للمعضلات السابقة، وأسئلتها.

فوضع حليٍّ خشبية من الكنيسة المعلقة بمصر القديمة، مع قلم للتوراة من كنيس يهودي في جناح "العالم الإسلامي"، أو عمل عن الحرب الأهلية اللبنانية، لا يجيب عن سؤال ما هو "الإسلامي" بل يشوشه أكثر. فـ"الإسلامي"، على ما يبدو، هو كل شيء ولا شيء، في الوقت نفسه. ولعل تلك الأسئلة لم تغب عن مصممي وأمناء "غاليري البخاري". ففي حوار مع مجلة "أبولو" الفنية، تقر فينيشيا بورتر، وهي واحدة من أمناء الجناح، بالجدل الدائر في الأوساط البحثية حول تعريف "الفن الإسلامي"، أو إن كان هناك فن إسلامي في الإساس. بل وتذهب في الحوار نفسه إلى طرح السؤال الصعب: "لماذا هناك فن إسلامي ولا يوجد فن مسيحي؟" لكن المدهش أن الحوار ينتهي من دون أن تحاول التعرض للسؤال على الإطلاق.

يظل جناح "العالم الإسلامي" هو القسم الوحيد من أقسام المتحف البريطاني التي تضاف إليه هوية دينية. فلا أقسام للعالم البوذي، أو الفن المسيحي، أو المقتنيات الهندوسية أو المعروضات اليهودية. ومع حسن نوايا القائمين على الجناح الجديد، يظل تاريخ يمتد 15 قرناً، لمناطق شاسعة من العالم، وثقافات مجتمعاتها وفنونها وحرفها وأديانها، مُختزلاً ببساطة في صفة "الإسلامي"، بل وتوضع كلها في غرفتين. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها