الأحد 2018/11/18

آخر تحديث: 06:00 (بيروت)

يعيش الشعر

الأحد 2018/11/18
يعيش الشعر
لا يمكن غض الطرف عن الدعوات إلى الشعر
increase حجم الخط decrease
منذ مدة، أطلق غيوم لوكابلان في صحيفة "ليبارسيون" سلسلة "قصيدة الاثنين"، التي يختارها من كتب شعرية راهنة، عامداً إلى نشرها مع مطلع كل أسبوع. للحظة، تبدو هذه الخطوة، ومجالها هنا هو فرنسا، غريبة، فما الذي يدفع إلى تخصيص فقرة شعرية في جريدة وضعها كوضع أي وسيلة ميديوية شائعة من ناحية طغيان السرد عليها؟

لكن، فعليا، تلك الخطوة ليست غريبة سوى لأنها تقاوم الطاغي، كما أن غرابتها تختفي عند إدراجها في سياق يصنعه هؤلاء الذين، وأينما وجدوا في عالم الكتابة الأدبية، وكل كتابة هي كتابة ادبية، لا يقبلون مثولها. ففي الجامعة، ثمة من يرفع الشعر وجهة، وفي المكتبة، ثمة من يضعه في الواجهة، وهم لا يفعلون ذلك سوى لأنهم يدركون أن هذه المؤسسة وتلك محكومتان بأمر واحد: أخبروا قصصا!

فيتوجب على كل شخص أن يخبر قصة، أو بالأحرى ينشئها، تماما كما ينشئ "الستوري" على فايسبوك، لتكون مجموعا من الصور، وإذا لم يفعل على هذه المنصة، يفعل على أخرى، وقد صارت من نوعها، اي في الرواية، حيث تبقى قصته صورية أيضا. طغيان القصة من طغيان الصورة، التي تؤلف مخبرها بهدف تسويقه ثم تسويق اي شيء عبره.

بالتالي، الإفراط في جعله مسلوباً ومستلباً، تماماً، كما هو حال مُتلقي سرده، الذي سرعان ما يسعى إلى المشاركة في تأليفه. نتيجة كل ذلك، يتحول السرد الى مجرد إنتاج لذات بحدود وهمية، من خلالها، يغدو صاحبها متداولا. على هذا النحو، ليس صدفة أن السرد ما عاد، ومنذ زمن بعيد للأسف، يستمد قيمته من كونه أدباً، أو من كونه أدباً ماضياً، بل يستمدها من كونه وسيلة إعلانية بامتياز.

من هنا تحديداً، يذهب المشجعون على الشعر إلى أن التوقف عن وضعه جانبا، واعتباره بلا مكان، في راهن الكتابة، هو فعل ضروري للغاية. إذ إن الشعر هو احتجاج على طغيان القصص، وضخها بطريقة كثيفة من كل الجهات. في هذا السياق، من المتاح الإشارة إلى أن لوكابلان، المبادر إلى "قصيدة الاثنين"، هو صحافي إلكتروني، بحيث يعلم أن "الويب"، الذي ينشغل به، هو فضاء قوامه السرد، لا سيما على إثر استلام ما يسمى التواصل للسلطة فيه.

على أن الركون إلى الشعر ما يجب أن يقتصر، بحسب مشجعيه، على الشبكة العنكبوتية طبعا، بل، وبالتوازي مع لزام حضوره فيها، هناك لزوم لحضوره خارجها، اي في العيش، الذي ابتلعته سلطتها. فخلال هذا العيش، في جغرافيته، المدينية، كباريس مثلا، هناك حالة بارانوية عامة، خصوصا في ظل المراقبة الكاميراتية، وهذه الحالة، مع ان التحبير حولها يأخذ، وبطريقة مباشرة، منحى كلينيكياً، غير أن النظر إليها باعتبارها علامة على قرب المصابين بها من نفوسهم متاح.

وفي هذا المطاف، الشعر يسمح لهم أن يمتنوا هذه المقربة أكثر لتغدو المسافة بينهم وبين نفوسهم ضئيلة، وعلى هذا المنوال، يمضون إلى تعطيل ريبتهم، أو تخفيفها على الأقل. الشعر بمثابة طريق إلى التبلور، وهذا ما يحيل إلى تجربة شاعر عظيم كهنري بوشو، الذي، ولكي يحدد الشعر، استعان بعبارة كافكا، معتقدا انه تسجيل "للتاريخ العالمي لروحي"، أو أنه، وبعبارته هذه المرة، "اكتشاف لاراضي كينونتي المجهولة".

لا يمكن غض الطرف عن الدعوات إلى الشعر، وحتى لو انها تفتح الباب لمشكلات كثيرة، وفي مقدمتها، مشكلة، سؤالها، اي شعر؟ لكن، المشجعون عليه يصيبون في كونه تعرضاً لإلغاء رافق وصوله إلى ذروة، أو وصول مؤسسته إليها. فيوم مات الشعر، فلأن مؤسسته ماتت، الا انه، في الأساس، لا يولد منها، ولهذا، هو اليوم من دونها، حر، وبعيد، ويكون أمام خيارين: خوض المرئية لكسر الطغيان، أو البقاء مطرحه. نتيجة الخيار الأول، وهو خيار أعلنه الشاعر سيموس داغتيكن، يقوى عوده، ونتيجة الخيار الثاني، لا يحتل موضع السرد، ولا يستلزم لاحقا اطاحته، فيولد كأنه لا شيء لتكون ولادته هي كل شيء. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها