الأحد 2018/11/18

آخر تحديث: 09:23 (بيروت)

القاهرة في زمن آكلي اللحوم الآدميّة والتغزّل بالغلمان

الأحد 2018/11/18
القاهرة في زمن آكلي اللحوم الآدميّة والتغزّل بالغلمان
يرى المؤلف أن ظاهرة الشذوذ بلغت ذروتها في العصر المملوكي
increase حجم الخط decrease
"من لم يرَ القاهرة، لم يرَ شيئا"

ألف ليلة وليلة
يقال إن جزءاً كبيراً من قصص"ألف ليلة وليلة" كتب في القاهرة، كانت من أهم المدن التي ذكرتها حكايات الليالي كنموذج للمدن الحضرية، المليئة بالعمران والبساتين، والحمامات والأسواق، كما كان للقاهرة أيضا ظلالها الواضحة في أغلب السير الشعبية العربية، كفضاء رحب مليء بالحكايات الخرافية والأساطير.

لكن علاقة المدينة بالأساطير بدأت قبل ذلك بكثير، من لحظة الإنشاء نفسها، حيث بدأت رحلتها بنذير مشؤوم، فبعد عبور جوهر الصقلي قائد الجيش الفاطمي قادماً من بر الجيزة عند المنيل، اتجه إلى الصحراء القريبة من تلال المقطم وضرب خيامه. وضعت القوائم الخشبية لتحديد موضع الحصن الجديد، وفي ركن ناءٍ وقف المنجمون يتشاورون لتحديد متى يبدأ العمل، كانت الأجراس معلقة على الحبال الممتدة من عمود إلى آخر، انتظاراً للموعد الذي يحدده الحكماء لبدء العمل.

غراب الشؤم
لكن حدث شيء سبق كلمة المنجمين. إذ وقف غراب على طرف أحد الأعمدة، وأخذت جميع النواقيس تدق، ومن ثم اعتبرها العمال إشارة البدء في العمل، في تلك اللحظة كان كوكب المريخ في صعود، ومن أسمائه القاهر، وبمقاييس المنجمين يعد طالعه مشؤوماً، لكن لم يكن هناك مفر.

هكذا بدأت أولى خطوات القاهرة كما ترويها الحكايات الشعبية، التي تجد الكثير من الدراسات الداعمة الآن، أحدثها كتاب "القاهرة بين التاريخ والأساطير"(*) الذي صدر مؤخرا، ويقدم قراءة تفصيلية لذلك الارتباط الغريب بين القاهرة والأساطير التي صاحبت المدينة منذ لحظة الإنشاء ولازمتها في كل مراحل تطورها، مستعيناً ومستدلاً بعشرات المراجع ومقولات المؤرخين والرحالة.

الإشارة إلى "ألف ليلة" كانت ضرورية، رغم أنها تتضاءل كثيراً أمام هول ما يرد في الكتاب كحقائق، خاصة ما جاء في فصل "افتراس اللحوم الآدمية في القاهرة"، وهو يجمع أشهر وأغرب ما قيل في أكل الإنسان، وتتصدره مقولة مرعبة للمقريزي يقول فيها "كان الأب يأكل ابنه مشوياً ومطبوخاً والمرأة تأكل ولدها"!

حكايات كثيرة قيلت في الأزمات الاقتصادية التي مرت على مصر، وأساطير أكثر رويت عن تصرفات أهل القاهرة وقت الشدة المستنصرية وما تلاها، لكن الوقائع التي يرويها الكتاب مختلفة هذه المرة وأكثر تفصيلا، وفي أزمنة مغايرة أيضا.



تبدأ مع عهد السلطان العادل الأيوبي الذي شهد سلسلة من المجاعات بدأت مع سنوات حكمه الأولى، ففي سنة (596 هـ/ 1199م) لم يستكمل النيل أربعة عشر ذراعا، لذلك لم يسق إلا جزءا بسيطا جدا من الأرض، فندر الغذاء، وارتفعت أسعار الطعام، وعمت البلاد المجاعة والقحط، وانتشر الوباء، وفي العام التالي توقف النيل عن الزيادة، وثبت عند اثني عشر ذراعا، ولم يزد بعد ذلك شيئا، واستمر على ذلك ثلاث سنوات متتالية، فندر الغذاء ودخلت البلاد في أزمة طاحنة، حاول الملك العادل التدخل فأنفق على الناس من أمواله، لكن التحدي كان أكبر من قدرته، فلم تكن أمواله تكفي حتى لتكفين الموتى "قام بإخراج الكثير من الغلال وأمر بتوزيعها للتخفيف من حدة هذه الأزمة على أهل البلاد، وامتلأت طرقات المغرب والمشرق والحجاز والشام برمم الناس، وصلى إمام جامع الإسكندرية في يوم على 700 جنازة" ويورد الكتاب ما جاء في كتابات المؤرخين وقتها "اشتد الغلاء، وامتد البلاء، وتحققت المجاعة، وتفرقت الجماعة، وهلك القوي فكيف الضعيف، ونحف السمين فكيف العجيف، وخرج الناس حذر الموت من الديار وتفرق فريق مصر في الأمصار" وكان من الطبيعي أن ينتشر على اثر ذلك الوباء والطاعون، ويشير ابن إياس إلى ذلك فيقول: "ثم جاء عقب ذلك فناء عظيم حتى مات من أهل مصر حوالي الثلثين".


يؤكد الكتاب أن تلك المجاعة فاقت بكثير ما حدث وقت "الشدة العظمى" التي تعرضت لها مصر في خلافة المستنصر الفاطمي والتي استمرت لمدة سبع سنوات، ووصلت إلى حد لم تصل له البلاد من قبل، حيث كانت من الشدة إلى حد اضطر أهلها من شدة الجوع إلى أكل الكلاب والقطط والحمير والبغال والخيل "فما بقي في مصر من دابة.. وجرت أمور تتجاوز الوصف".

تقول النصوص إنه بعد أن فرغت الكلاب والقطط والوحوش والطيور، وكل ما يتحرك، أو ما كان يتحرك، بدأت الأيادي بالامتداد نحو الأيادي الأخرى التي توقفت عن الحركة، تتفحصها، تتفرس فيها، تقلبها، تتركها ثم تعود إليها، كم يستمر الوضع قبل اتخاذ القرار بالأكل؟

يسأل المؤلف ويرد بالنصوص نفسها التي تؤكد أن الأمر لم يأخذ وقتا كثيرا، حيث بدأ نهب القبور من أجل الطعام "واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلو الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث.. ومما شاع أيضا نبش القبور، وأكل الموتى، وبيع لحمهم، وخلت مدينة القاهرة ومصر من أكثر أهلها، وصار من يموت لا يجد من يواريه، فيصير عدة أشهر حتى يؤكل أو يبلى".

الصراع من أجل البقاء
يستقي الكتاب الحدث من مصادر عديدة، ويقول إنها تتفق جميعا على أن قرار الافتراس العام حدث فعلا بعد نفاذ كل غذاء، وإن تجربة الصدمة الأولى كانت تجعل مرتكب الفعل يحس بنوع من المرارة أو وخز الضمير، أو تذهب به على حد التقيؤ والغثيان، لكن المجاعة تمتد، وصفة التماد هذه تجعل مرتكب الفعل يجوع من جديد، ثانيا، وثالثا، فيذهب هول الصدمة الأولى إلى حاله، "وليس هناك إلا الاستسلام للجوع والموت، أو الصراع من أجل البقاء وأكل الآدميين".

استمرار المجاعة لسنوات، جعل تصرفات كهذه تصبح عادية على بشاعتها، فصار الناس إذا قوي أحدهم على صاحبه يذبحه ويأكله، "وصار الرجل يذبح ابن جاره ويأكله، ولا ينكر عليه ذلك، ويذبح ولده ويأكله من شدة الجوع" ومن أشنع ما قيل في ذلك أن "الرجل كان يقوم بذبح ولده الصغير وتساعده أمه على طبخه ويأكلونه، ولما إطلع السلطان على ذلك أمسك جماعة فعلوه، فأمر بحرقهم، فأحرقوهم بمشاهدة جميع الناس، وكان الرجل يدعو صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيفه، فيذبحه ويأكله".

كثير من الفظائع يرد ذكرها في هذا الكتاب، ليس على سبيل الأساطير، لكن كحقائق مؤكدة،  بعضها يصعب قوله حول الحيل التي اتبعت في الاصطياد، وطرد طهي الأطفال وغالبيتها لمؤرخ يؤكد الكتاب أنه رأى كل ذلك بنفسه "لم ينس البغدادي أن يؤكد أن ما قصه هو مما شاهد وسمع، وأنه لو أخذ في قص المزيد عن أكل لحوم البشر لاتهم بالهذر، وأن كل ما حكاه هي مشاهداته التلقائية التي لم يتقصدها ولم يتتبعها، وإنما رأى وسمع بالمصادفة، وأنه كثيرا ما كان يفر من المشاهدة لبشاعة المناظر".

وفي تحليله يقول أشرف صالح كاتب هذا الفصل أن طول فترة المجاعة أدى إلى وقوع حالات كثيرة جدا لأكل لحوم البشر، فانتشرت في جميع أنحاء البلاد حتى لم تبق قرية من قرى مصر لم يصبح فيها أكل لحوم البشر أمراً مألوفاً، وانتشرت العصابات لخطف الصغار والكبار في القاهرة التي وصل فيها الأمر إلى القتل والأكل ليس فقط بدافع الجوع والفقر بل بدافع من اللذة أيضا!


تتفرع موضوعات الكتاب، لتتناول أبرز ما قيل عن المكتبات الخاصة، وأيضا ثورات أهل القاهرة، المشهور منها والمجهول والتي جمعها في الغالب الاحتجاج على الظلم "فالسلطة السياسية أو الحكم مرتبط على طول تاريخنا الإسلامي بالقوة لا بالعدل" لكنه يعود مجددا لليالي لتقديم وجه آخر من وجوه القاهرة في تلك الأزمنة السوداء، يقول إن دراسات عديدة أوضحت أن هناك جزءا على الأقل من قصص ألف ليلة وليلة كتب في مصر في العصر المملوكي بالتحديد، حيث يغلب الظن في رأي النقاد والمدققين أن هذا الكتاب قد وضع بين القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، ويبدو أن مدينة القاهرة في أزمنة الليالي حسبما يروي الكتاب، كانت أكثر المدن فضاء للحريات والعلاقات الجنسية، ويبدو أن سلطاتها في تلك الأزمنة كانت قد فقدت السيطرة على هذا الأمر نظرا للكم الكبير من الأجناس البشرية التي وفدت إلى البلاد، فالقاهرة في الليالي مدينة كبيرة، كثيرة الخلق، والأسواق، والحمامات، والمال، "تحتوي "ألف ليلة وليلة" بلا منازع على أكبر قدر من المجون، فالمجموعة تُعَدّ أكثر الكتب انتشارا وأوسعها شهرة بين العامة والخاصة، لما تزخر به من المقتطفات الرائعة، حيث تتجلى في سطورها الرؤية الشهوانية بشكل كلي وشامل غير منفصل عن المحيط الثقافي والاجتماعي الذي تولدت عنه هذه الحكايات الرامية إلى امتصاص الحب في الحياة".

الأميرة والقرد
ومن الليالي يقرأ الباحث أيضا أن الشخوص إذا ما تعرّضت في بعض مدن ألف ليلة وليلة إلى الكبت والحرمان الجنسي، فإنها تهرب من مدنها إلى فضاء مصر الواسع لتحقيق لذاتها الجنسيّة، كما في حكاية "داء غلبة الشهوة عند النساء ودواؤها"، إذ تولع إحدى الشابات الأميرات بنكاح قرد، وعندما يكتشف والدها السلطان أمرها، يقرر أن يقتلها خوف الفضيحة، فتهرب مع قردها إلى فضاء مصر الآمن "فتزيّت بزي المماليك وركبت فرسا وأخذت لها بغلاً حمّلته من الذهب والمعادن والقماش ما لا يوصف، وحملت القرد معها وسارت حتى وصلت به مصر، فنزلت في بعض بيوت الصحراء". ويقول المؤلف في تحليله إن الراوي هنا لا يقصد بالصحراء تلك البعيدة عن مصر، بل يقصد الفضاء المحيط بمدينة القاهرة والبعيد نسبيا عن الازدحام، لأن هذه الأميرة كانت تشتري كل يوم "لحما من شاب جزار"، والمرافق التجارية في تلك الأيام لم تكن موجودة في الصحراء، باستثناء بعض الخانات التي شكلت محطات استراحة على الطرق الصحراوية، التي تربط بين المدن. الحكاية وتفاصيلها الغرائبية دفعت الباحث للتفكير في الأجواء التي أوحت للمؤلف بهذه الأمور، بل جعلته يفكر أيضا في أن "ما لم تذكره المصادر عن الممارسات الجنسية لعامة الناس كان أكثر إثارة".

يفسر اختيار عصر المماليك بالتحديد لكتابة الليالي، فيقول إن المجتمع المصري في ذلك العصر امتلأ بكثير من العلاقات الحميمة المرتبطة بالجنس والتي انتشرت بين جميع الطبقات حُكاماً ومحكومين، من أهل الدنيا والدين. صحيح "إن ذلك العصر يمتاز بمسحة براقة من الصلاح والتقوى، والحرص على إقامة المنشآت الدينية الفخمة، والرغبة المبالغة في إحياء شعائر الدين" لكن هذه المسحة الخارجية لا تلبث أن تتضح حقيقتها لمَن يتعمق في البحث، فلا تبدو في نظره إلا "طلاء خادعا يخفي وراءه انحلالاً خلقياً بعيد الغور، ولا يمكن أن يكتمل تصوير المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك بغير إشارة إلى هذه العلاقات ومدى انتشارها وخطورة أثرها".



وبحسب قراءته للنصوص فقد كان عامة الأهالي يزرعون الأرض، ويدفعون الضرائب ليعيش منها المماليك، ويصنعون لهم ما يحتاجون إليه من مختلف الحاجات، ويبنون عمائرهم، وقليل منهم كان يعمل في القضاء وما إليه من الوظائف الدينية وفي ما عدا ذلك لا يتصلون بالهيئة الحاكمة، ولا يد لهم في شؤون الحكم، وإنما يحمدون الله إذا وَلي عليهم سلطان معتدل. ولذلك وصف ابن خلدون (1332 - 1406م) المصريين في العصر المملوكي، فقال عنهم: "وأهل مصر كأنهم فرغوا من يوم الحساب"، إشارة إلى أن المصريين مغلوب على أمرهم، لا وجود لهم في ظل حكم المماليك، ولا صوت لهم، وقد قنعوا بالاستسلام والرضى بالحياة العادية الرتيبة أو شئون الحياة اليومية.

البغايا
في هذه الأجواء تفشى الشذوذ الجنسي، وقد حكى الجاحظ سبب انتشاره في الخراسانيين، فقال "خروج الأجناد في البعوث مع الغلمان، وذلك حين سَن أبو مسلم ألا يخرج النساء مع الجند، خلافا لبني أمية الذين كانوا يسمحون بخروج النساء مع العسكر، فلما طال مكث الغلام مع صاحبه في الليل والنهار وعند اللباس والتستر، وهم جنود فحول تقع أبصارهم على خد كخد المرأة، وردف كردفها، وساق كساقها، تولدت هذه الفاحشة"، وعبر المقريزي تعبيراً صريحاً عن انتشاره في مصر، فقال أنه: "فشا في أهل الدولة محبة الذكران"، حتى عمدت النساء إلى التشبه بالذكور في ملبسهم، "فتشبه البغايا لبوارهن بالغلمان" ليستملن قلوب الرجال، وفي سنة 662هـ "نودي في القاهرة ومصر أن امرأة لا تتعمم بعمامة ولا تتزيا بزي الرجال"، وكان من العادات الغريبة في ليلة العرس، إلباس العرائس لباس الرجال.

يرى المؤلف أن ظاهرة الشذوذ بلغت ذروتها في العصر المملوكي لأن الروافد التي تغذيها كانت متدفقة نشطة؛ فهناك أسواق النخاسة التي تقذف كل يوم بأجناس وأجناس من الغلمان، وهناك سبي الحروب، وهناك الطوائف الوافدة مثل الأويراتية، تلك الطائفة التترية التي وفدت على مصر في عهد كتبغا (1294 - 1296م)، فاسكنها الحسينية، وعُرف غلمانها بالجمال، حتى كان يُقال البدر فلان، والبدر فلان، ويدلل على شيوع الأمر كذلك بانعكاسه على الذوق الجمالي للعصر في الأدب، حيث يرى أن التغني بجمال الغلمان، أو التغزل بالمذكر قد احتل مساحة واسعة من غزليات هذا العصر "لا نبالغ إذا قلنا أن المرأة قد تضاءل نصيبها من الغزل إذا قيس بما انساق إليه الأدباء من الفتنة بالجمال المذكر".

كما كان هذا الإعراض سببا في انتشار السحاق بين النساء، إضافة إلى المؤسسات الاجتماعية الخاصة بالنساء كالحمامات العامة "المساحقة بوصفها فعلاً جنسياً كانت تتم بين النساء في الحمامات، وخاصة اللائي ليس لهن أزواج، أو عند اللائي يرغبن في لفت الأنظار".

ويقول المقريزي عن القاهرة في تلك الفترة: "والفقير المجرد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته، ووجود السماعات، والفرج في ظواهرها ودواخلها، وقلة الاعتراض عليه، فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في السوق أو تجريد، أو سكر من حشيشة أو غيرها من صحبة المردان". ويصف الشعراني الفترة نفسها فيقول: "ونحن في زمان وعد الشارع فيه بظهور المعاصي، والفتن، وكثرة الزنا، واللواط، والقتل، وشرب الخمر، وغير ذلك".

(*) كتاب "القاهرة بين التاريخ والأساطير.. مشاهد من حياة المدينة في العصور الوسطى" تأليف عمرو عبد العزيز منير، وأشرف صالح محمد. وصدر مؤخرا عن المكتب العربي للمعارف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها