السبت 2018/11/17

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

"اعتراف" عبدالله الكفري..ما جدوى البوح إن كانت الجريمة مستمرة؟

السبت 2018/11/17
"اعتراف" عبدالله الكفري..ما جدوى البوح إن كانت الجريمة مستمرة؟
هل كان قدور ليفلت من تلك الوعظية لو كتب نصّه بعد عشر سنوات من الآن؟
increase حجم الخط decrease
في فضاء مسرح بالاس، قُدم عرض "الإعتراف" للمخرج عبدالله الكفري وذلك في إطار منصة "فَوكِس لبنان" ضمن مهرجان "أرصفة زقاق"(*). معتمداً على نسق المسرح داخل المسرح، يستحضر نص الإعتراف مسرحية "الموت والعذراء" للكاتب التشيلياني آرييل دورفمان، ويبني من أطرافها سردية سورية موازية حول ضرورة الاعتراف ولربما اذا ما تم الاعتراف، يصبح التعايش مع ما جرى ممكناً. 
عندما كتب دورفمان مسرحية الموت والعذراء العام 1990 كان قد عاد للتو من منفاه. لم يحتمل الصمت إزاء كل ضحايا بينوشه الذين التقاهم كما ذكر في صحيفة الغارديان. أراد من خلال مسرحيته أن يطرح تساؤلاً حول إمكانية أن "نتعايش في المكان نفسه، أو حتى في الغرفة نفسها، مع من تسبب لنا بضرر لا يمكن إصلاحه. هل سنكون قادرين على مقاومة الثأر، إذا كان هذا الانتقام ممكنًا؟" عندما طرح دورفمان هذا السؤال كان بينوشه ما زال في الحكم. لم يعد رئيساً ولكنه كان قائداً للجيش. وائل قدور، على مسافة ثلاثة وعشرين عاماً من سؤال دورفمان، يطرح التساؤل نفسه في سياق متشابه الا أن بشار الأسد لا زال رئيساً للجمهورية وهناك مزيد من الانغماس في العنف (الذي انحسر في حالة بينوشه اذ احتجز العام 1998 ورُفعت دعاوى بشأنه). 


حبكة نص الاعتراف تدور حول شخصية عمر الذي يحاول إخراج "الموت والعذراء" في سوريا العام 2012 حيث تلعب هيا، حبيبة عمر، دور بولينا وحيث يلعب أكرم، سجين سابق دور دكتور ميراندا الذي اغتصب بولينا وعذبها في السجن. يعيش عمر عند خاله وهو ضابطٌ سابق سُرح من الخدمة وكان له باع في ممارسة العنف. عندما قرّر عمر العمل على نص دورفمان لم تكن الثورة قد اندلعت، وعند اندلاعها وإثر سجن أخ هيا، تجد تلك الأخيرة صعوبة في لعب دور بولينا الذي يشوبه بعد الإبهام. لماذا على هيا أن تقبل هامش الشك حول حقيقة تعذيب ميراندا لشخصية بولينا؟ هل بولينا تتوهم أن الرجل الذي دعاه زوجها الى منزلها هو الرجل الذي اغتصبها؟ هل هي مصابة بالجنون؟ هذا الصراع في مسرحة "الموت والعذراء" يوازيه الصراعات التي يولدها خال عمر طوال العرض: صراع بينه وبين نفسه حول العودة الى الخدمة، صراع بين جلال وعمر الذي يرفض محاولات خاله لإقناعه بالخروج من سوريا وعدم عرض المسرحية، صراع بين جلال وأكرم كمضطهِد وكمضطهَد بحُكم أن جلال قد مارس التعذيب على أكرم أثناء سجنه، الصراع الذي يتولد عند رضوان، العسكري الذي يؤدي خدمته الإلزامية، عندما يعلمُه جلال أن أخ هيا قد مات.

الفارق بين نص دورفمان ونص قدور أن الأخير تعدّى حدث المواجهة بين بولينا ودكتور مارينا الذي اغتصبها وعذبها. في نص قدور منظومة العنف لا تتمحور حول مواجهة المضطهَد والمضطهِد أو الجلاد والضحية. المواجهة هنا لا تتم الا بشكل رمزي وغير مباشر. بشكل مواز، ينظر النص في أكثر من مكان الى الدينامية التي تحيط بثنائية المضطهَد والمضطهِد والتي تلقي الضوء على منظومة اجتماعية نشأت على الإنمساح الكلي أمام السلطة وعلى ممارسة العنف كفعل بديهي منذ الطفولة. ليست شخصية رضوان سوى مثال على أثر تلك المنظومة: هو عسكري، خادم لجلال يسعى لإرضائه، يوافق على كل ما يقال له، يعترف بسرقة لم يرتكبها لينقذ نفسه من الخدمة العسكرية. الفعل الذي يجيد القيام به هو مسح الأرض والطاولة بنفس الممسحة في إحالة الى فعل انمساح الذات. في إحدى المشاهد التي تجمع جلال برضوان، يعترف هذا الأخير بتعذيب عنزة في طفولته حتى تسبب الأمر بنفوقها. عنف فردي يمتّ الى زمن الطفولة يتقاطع في المشهد الأخير مع عنف مؤسس، يتمثل بوصف أكرم لمضطهِده جلال الذي عذّب جثة من خلال بوضع عصا في مؤخرتها، تماماً كما فعل رضوان مع العنزة. 
مكوّن أساس لدينامية المضطهَد والمضطهِد هو اعطاء مساحة كبيرة من النص للصمت النابع عن الخوف أو العجز وعدم المواجهة الا من خلال الترميز أو المسرحة: عندما تطلب هيا من رضوان أن يصلي لعودة أخيها، يكتفي هذا الأخير بالصمت بالرغم أنه يعرف أن أخاها قد مات. عندما يشتد الجدل بين عمر وهيا حول النظام والثورة، يكتفي أكرم أكثر المتضررين من النظام بالصمت. كل من شخصيتي جلال وأكرم يعرفان أن ما يجمعهما هو عملية تعذيب أحدهما للآخر ولكن لا يقرّ أحدهما هذا الأمر حتى حين يلجأ أكرم الى المسرح ليدين جلال، لا يقوم بذلك بشكل مباشر. في الواقع هنالك ثلاث طبقات من لعبة المسرح داخل المسرح، يكفي الإطلاّع على مجمل الحوارات التي تجمع جلال بأكرم التي تبلغ حداً سوريالياً. أكرم يتحدث عن لقائه بجلال أمام هذا الأخير كما لو أنه يتحدث عن شخصٍ آخر. ينتهى هذا الحوار بقول جلال: "انتا متأكد انو هوي عمل حالو ما بيعرفك... رجاع تذكر منيح شو حكيتو"، كما لو أنه يحاول أن يدفع أكرم الى مواجهة لن تحصل وجهاً لوجه محيلاً مسؤولية تلك المواجهة الى الطرفين. 


كل هذه الطبقات للهروب من فعل الإعتراف المباشر مدفوعة بقناعة راسخة لدى جلال أن من يملك القوّة أو السلطة قادرٌ على القتل وبالتالي لا فائدة من الإعتراف. إما القتل وإما الرضوخ، أما الإعتراف فلا مكان له.

حرص عبدالله الكفري كمخرج على إعطاء الأهمية الكبرى للنص. لم يشتغل على أي خيارات إخراجية أو فنية قد تشتت انتباه المشاهد وتبعده عن نص قدور كمادة أساسية لعمله. عمد على إدارة ممثليه على نحو بالغٍ في واقعيته. عفوية الأداء لدى كل الممثلين على امتداد زمن العرض، ومدى اقترابها الى أرض الواقع لافتة، لدرجة لا يشعر المرء أن ما يراه هو تمثيل باستثناء بعض اللحظات المبالغ بردّات فعلها وهي قليلةٌ جداً واللحظات التي تمّ اللجوء فيها الى الممثلين لتحريك عناصر السينوغرافيا، الذكية في طرحها وإن بدت ضعيفة في عرض مسرح بالاس نتيجة عوامل بطء ايقاع العرض وضعف الإضاءة الخ. في الواقع، السينوغرافيا حاضرة قبل أن يبدأ العرض. عند نزوله على درج مسرح بالاس، سوف يعترض المشاهد ماكيت لعرض "الموت والعذراء"... الماكيت تظهر شخصيات مصنوعة من أسلاك حديدية. قبل دخوله الى المسرح يستلم المشاهد مطويتين: مطوية عرض الإعتراف ومطوية عرض عمر الذي عرضه العام 2012. 

عناصر السينوغرافيا في مشاهد مسرحية دورفمان داخل العرض وزمن البروفا الذي يحيطها تبدو واقعية وحقيقية أكثر من سائر المشاهد في العرض التي تحصل في منزل جلال. بمعنى أن المنزل يبدو ممسرحاً ولعبة المسرح داخل المسرح تبدو أقرب الى الواقع. البرافانات الثلاثة التي تشكل خطاً منحرفاً نراها في بيت جلال وفي كل المشاهد التي تتم هناك واستخدام الفيديو في بيت جلال بينما مشاهد مسرحية "الموت والعذراء" تكاد تخلو من أي عنصر سينوغرافي يذكر بالمسرحة المؤسلبة. كما لو أن هذا الرفض للإعتراف بمستوياته المتعددة والذي لا ينحصر بشخصية جلال فيه من العبثية التي تحيل الى المسرحة بينما الجدل حول مسرحية تصرّ على المواجهة هو الذي يبدو أقرب الى الواقع. 
في النهاية، تحيل تلك المسرحية الى تساؤل حول معنى الإعتراف في مواجهة راهن الجريمة والعنف اللذين يأخذان في مداهما: كيف يكون الإعتراف ممكناً اذا ما كانت الجريمة فعلاً مستمراً، واذا ما كان الصمت جزءاً من لاوعي جماعي عجزت الثورات عن كسر وطأته عند بعضهم؟ سؤال لن تكون اجابته شافية في نهاية العرض التي بدت وعظية بعض الشيء. وهل كان قدور ليفلت من تلك الوعظية لو كتب نصه بعد عشر سنوات من الآن؟  
(*) "الإعتراف" هو نص مسرحي كتبه وائل قدور اثر مشاركته في ورشة عمل حول "الكتابة للخشبة"، قبل أن يتم العمل على النسخة الأخيرة منه عام ٢٠١٧ حتى تُعرض العام 2018 بمَعية الممثلين أسامة حلال، سها نادر، جمال سلوم، شادي مقرش وحمزة حمادة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها