الخميس 2018/11/15

آخر تحديث: 17:06 (بيروت)

هدمُ بيت من ورق

الخميس 2018/11/15
هدمُ بيت من ورق
من الصورة التذكارية لمجلس النواب الأميركي المنتخب في "كابيتول هيل" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لعل الموسم السادس من مسلسل "نتفليكس" الشهير، "بيت من ورق" House of Cards، هو النتيجة الملموسة الأولى، والأكثر مرئية، لحملة "مي تو" في الثقافة الشعبية أو السائدة، سواء تبنّتها الحملة أم لا. 


فالممثل البطل، كيفن سبايسي، الذي بُنيت حوله غالبية خيوط الدراما السياسية على مدى مواسم خمسة، أُخرج من المسلسل بعد اتهامات بالتحرش الجنسي. فحُذفت شخصيته (فرانك أندروود) تماماً من سيناريو الموسم السادس، ليس فقط بإماتتها ودفنها، بل بتعمّد محوها سمعياً وبصرياً، وبحَرفيّة مضطربة ومُقلقة. إذ تم قصّ وجه "فرانك" حتى من الصور الفوتوغرافية العابرة في بعض الحلقات. والمقتطفات من مذكراته، التي كان قد رواها وسجّلها بصوته، تأتينا عبر شخصية "دوغلاس ستامبر" الذي يمليها بصوته على إحدى الصحافيات، ويتلوها على "كلير"، أرملة "فرانك"، لابتزازها وقد باتت رئيسة للولايات المتحدة.

والمفاعيل التي تستحق التأمل اليوم، ليست في غياب كيفن سبايسي في حد ذاته. بل في الوِجهة التي قرر كتّاب المسلسل اتخاذها، بأثر من غياب سبايسي الذي، وبسبب تلك الخيارات بالذات، بدا مُفتقداً بشكل مُضاعَف. فكأنما أُريد للموسم السادس أن يكون استجابة مباشرة، مباشرة جداً، ومغالية في مباشرتها، لحملة "مي تو"، والأرجح أنه أضرّ بقضيتها أكثر مما دعمها.. أم أنه مثَّلها خير تمثيل؟ ما زالت الإجابة على السؤال هذا رهن تفاعلات الحملة. لكن المؤكد أن المسلسل عاد، بلا كيفن سبايسي، مدجَّجاً بالأنوثة، كما يُدجَّج مقاتل بالسلاح، بل كما يُدجَّج سفّاح. عاد مُشبعاً ببارانويا، وانفعالات ثأرية شرسة، لم نرَ مثلها في أي من المواسم السابقة التي شهدت الكثير من الجرائم والدم والدمار، لكن بتبريرات درامية وسياقية.

من نافل القول، وقبل التوغل في مسألة انهيار "بيت من ورق"، أنه ليس مجرد مسلسل أميركي آخر، وقد حقق نجاحاً. كما أن سقوطه المدوّي الآن، ليس مادة ينحصر نقدها في صفحات المراجعات التلفزيونية. فأولاً، هو أول الإنتاجات الأصيلة (2013) لشبكة "نتفليكس" التي غيّرت – وشبيهاتها في ما بعد – شكل المشاهدة المنزلية ومعناها حول العالم، وتالياً كانت واحدة من رواد تحوّل عميق نشهده في ثقافة "البوب" بأثر من دخول ثقافة هامش تقني/إبداعي في متنها. فصَنع المسلسلُ الشبكةَ العالمية كما صنعته، ليفتح النقاش على مصراعيه حول دمقرطة التلفزيون، ودور الانترنت، والالتفاف على حيتان الصناعة شرقاً وغرباً، وإعطاء جزء معتبر من السلطة للمُشاهد الفرد.. وهو نقاش ما زال حامياً ودائم التفرع، خصوصاً أنه بلَغ السينما والوثائقيات.

ثانياً، والأهم، أن إطلاق الموسم السادس من المسلسل سبَق الانتخابات الأميركية النصفية الأخيرة بأيام. والمصادفة، إن كانت كذلك، مليئة بالمفارقات. فهي الانتخابات التي أفرزت تغييراً تاريخياً في تركيبة الكونغرس بدخول عدد غير مسبوق من النساء من مختلف المشارب والخلفيات. وهو الموسم التلفزيوني القائم على شخصية "كلير هايل" (تؤديها روبن رايت) التي تفوز برئاسة الولايات المتحدة كأول امرأة تتبوأ المنصب في التاريخ الأميركي.

ما زالت الصحافة الأميركية تتبحر، منذ ظهور نتائج الانتخابات، في دلالات وصول أكثر من مئة امرأة إلى الكونغرس المؤلف من 435 مقعداً، والذي لم تكن النساء، عبر تاريخه، لتملأ أكثر من 84 من مقاعده. ناهيك عن تصدّر عبارة "للمرة الأولى" كمّاً هائلاً من التقارير الإعلامية والتحليلات: ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز (ترتدي الأحمر في لصورة أعلاه)، أصغر النساء المنتخبات على الإطلاق وعمرها 29 عاماً. إلهان عمر ورشيدة طليب، أول مسلمتين، وإلهان أول محجّبة. شاريس دايفيد وديب هالاند، أول سيدتين متحدرتين من السكان الأصليين لأميركا. أيانا بريلسي وجاهانا هايز، أول امرأتين من أصول إفريقية. ثم يزداد التحليل تشعباً وأهمية مع الأخذ في الاعتبار غلبة الحزب الديموقراطي في مجلس النواب الجديد، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب بالذات، وسيطرة الحزب الجمهوري على مجلس الشيوخ، وما يعنيه ذلك في السياسة والتشريع داخلياً، وفي السياسة الخارجية أيضاً. هكذا، تزداد المعركة احتداماً.

ولعل الوصف الذي أطلقته المذيعة في "فوكس نيوز"، لورا إنغراهام، على صورة جمعَت أربعاً من النساء المنتخبات (إلهان وأيانا ورشيدة وألكساندريا)، يختزل ويوضّح. إذ سمّتهن إنغراهام "فارسات القيامة الأربع"، في إحالة إلى ما يرِد في "العهد الجديد"، عن كتاب في يد الله اليمنى، مختوم بسبعة أختام، فيفتح "خروف الله" الأختام الأربعة الأولى، ما يستدعي أربعة كائنات تحضر ممتطية الأحصنة. وفي الفهم الثيولوجي، يمثل هؤلاء "الفرسان الأربعة": الغزو أو الوباء (وأحياناً عدو المسيح)، الحرب، المجاعة، والموت. والمهمة الإلهية التي يضطلع بها "الفرسان الأربعة" هي إنفاذ تمثيلاتهم تلك، تمهيداً لنهاية العالم ويوم الحساب.

فلماذا تحمّست مذيعة "فوكس" إلى هذا الحد الهلوساتي في الوصف؟ ليس فقط لأن النساء المنتخبات الأربع يمثلن فئات عرقية وجندرية ودينية يتقزز منها اليمين المحافظ. بل لأنهن أيضاً "يملكن الرؤى الأكثر راديكالية في الكونغرس"، بحسب تعبير إنغراهام. ومن الرؤى التي أفزعت المذيعة: التعليم الجامعي المجاني للجميع، الرعاية الصحية المجانية للجميع، إلغاء "منظمة الهجرة"، الدفع باتجاه اعتماد الطاقة النظيفة، والتعبير عن دعم حقوق الفلسطينيين.

أما توقعات الحقوقيين الأميركيين، فتذهب إلى أن التوليفة الجديدة للكونغرس، ليس بنسائها ومُلوَّناتها ومُسلِماتها فحسب، بل أيضاً برجالها من أمثال الديموقراطي النسويّ إليوت إنغل، ستفرز سياسات تقدمية، لا سيما في المجالات الاجتماعية، وخصوصاً في ما يتعلق بحقوق النساء، بما في ذلك الحق في الإجهاض. وهي بالضبط السياسات المناقضة لكل ما يمثله ترامب ويقاتل من أجله.

هذه هي الصورة، إذن، التي أُطلق على خلفيتها الموسم السادس من مسلسل "نتفليكس" الأشهر، حيث آلت رئاسة البلاد إلى امرأة تنتمي – كما زوجها الميت – إلى الحزب الديموقراطي، والبطل مطرود/مقتول بدفعٍ من "مي تو".


روبن رايت وديان لاين في مشهد من (House of Cards 6)

كان النص الدرامي قد أبدع سابقاً في تجسيد كواليس العمل السياسي الأميركي. دراما سياسية بامتياز، بصراعاتها ودسائسها، بالبهلوانيات الدستورية، و"فن" التلاعب بالرأي العام، وآليات كسب المعارك الانتخابية والتشريعية، حيث كل شيء مباح، والدراما الذكية توظَّف ببراعة لتظهير المعنى العملي لمصطلحات من قبيل whip وspin. وصولاً إلى ارتكاب جرائم موصوفة تبلغ القتل، في خضم لهاث محموم وشيّق خلف السلطة، ومن دون التخلي عن شطحات فنية وإخراجية من النوع السينمائي، كتحدّث الشخصيات إلى الكاميرا/المُشاهِد مباشرة.

هذا هو المسلسل الذي تمحور، في موسمه الأخير، حول "كلير" التي لا تمارس السياسة، ولا تحكم، بل لا تفعل شيئاً سوى تصفية أعدائها، الواحد تلو الآخر، ودوماً تحت شعار أن "الرئيسة الأولى للولايات المتحدة لن تبقي فمها مغلقاً". تكتشف أنها حامل، فتوظف حملها في البروباغندا ومصادرة ميراث "فرانك" الذي أوصى به كاملاً لـ"دوغلاس". تكذب بشأن عمليات إجهاض سابقة، ويبدو حملُها مفعولاً هرمونياً إضافياً في دراما "الأرملة السوداء". الكل يسعى لقتلها، وهي تقتل الكل. تدّعي الجنون لتُقيل الحكومة، وتشكّل أخرى كل عضواتها نساء. تتطرّف إلى حد إلغاء الرجال تماماً، ويزيد التطرّف تطرفاً أنها لا تفعل ذلك بناء على أي قناعة، بل لتتاجر بـ"السبق". وفي الواقع تستبد بقراراتها وتقمع وزيراتها وتُخرسهن في كل اجتماع، حتى يتفرقن من حولها أو يبقين خوفاً من بطشها.

لا مناورات الآن في "بيت من ورق"، فقط التهديدات، لغة الوعيد والسمّ. لا لمعة مستقاة مما لطالما شعر المتابعون أنه ثمرة بحث فعلي في الدستور وما بين سطور القوانين. بل صعود للإرهاب والترهيب، مصفّيَين من السياسة وحَلَباتها. هذه هي البلاهة المطلقة.. بل أليس هذا هو ترامب؟ّ! كأن "كلير" هي ذاك الرجل الذي يتصدّر أسوأ الكوابيس النسوية. "البيت" الذي كان مصنوعاً من ورق اللعب، صار ورقُه رمزاً لركاكته.

فما الذي تقوله "نتفليكس" كشبكة العالمية، لملايين المشاهدين، في دراما سياسية انطلقت في لحظة سياسية مفصلية، ليس في تاريخ الولايات المتحدة فحسب، بل في عيون عالَم يتابع ويستوحي، وحتماً يتأثر بكل ما يحصل في معقل "العالَم الحُرّ" الذي تتحدث عنه "السيدة الرئيسة"؟ ماذا قال الواقع، وماذا تقول الدراما، وماذا ستقول "مي تو" التي صارت عابرة للقارات؟ هل هي أزمة خيال، أم أزمة الجندر وخطابه؟ المسألة حتماً لا تخص أميركا وحدها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها