الخميس 2018/11/15

آخر تحديث: 12:12 (بيروت)

بيان الركض

الخميس 2018/11/15
بيان الركض
عندما تتحاذى الأجساد في ركضها، ولا يولد الجمع بينها..
increase حجم الخط decrease


1. لهؤلاء الذين يسألون عن داعي ركضنا، نجيبهم بعبارة بسيطة، قالها فيليب بوتي العام 1974، رداً على الاستفهام منه عن سبب تعليقه حبلاً بين برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، والمشي عليه: لا يوجد لماذا!

2. أينما جرى، الركض هو ركض إلى الصحراء ثم  ركض على رمالها. كلما نمت الصحراء من حولنا، تختفي، فينتشر الركض كتوجه إليها... فينا. العطش خلاله دليل على ذلك، صحيح، لكن مواصلته بغية الانصراف منها أيضا.

3. يضع الركض كل جسد على صلة بالأجساد فيه. فأي واحد منا يدرك أنه، وفي أثناء ركضه، ليس وحيدا، بل يحوي الكثير من الأجساد، والأصوات، والإرهاط، الذين يفرج عنهم ليتركوه في طريقه، وكلما برزوا وفعلوا ذلك، يزداد ذهابه. فيديبس، وعندما مات على عتبة أثينا التي أتاها من ماراتون، راح معهم برحيلهم منه!

4. كتبت رفيقة لنا، لا أحد يعرف من هي، في بداية الألفية الثالثة، أن الناس، حين يهربون، يفعلون ذلك فرادى. قولها ينسحب على الركض. فحتى في ممارسته مع غيرنا، تفيد هذه الـ"مع" بأن كلاً منا على حاله وعلى حدة من غيره. وفي الوقت نفسه، ولأننا كذلك، كل منا يدفع غيره إلى الاستمرار في حركته. في الركض صداقة. وكأي صداقة، لا يمكن أن تولد بلا أن تشعر الأجساد داخلها بقدراتها، وبلا أن تودي علاقتها إلى تحرير هذه القدرات أكثر فأكثر.

5. كأجساد بأحوال متصادقة، تولد جماعة الركض التي، وما أن يمر جسد راكض بقرب غيره، حتى تتشكل. فكل منهما يحس بألم الثاني، ويتقاسمه معه. لا حاجة هنا لأي تعارف، ولأي من وسائله، الوجه، الكلام، الاسم، لا حاجة لكل هذا، يكفي المرور بقرب، إلى جانب، في جوار، لكي يولد الجمع الذي يحث على الحركة.

6. عندما تتحاذى الأجساد في ركضها، ولا يولد الجمع بينها.. إما لا يحصل شيء، وهذا يعني أن قدراتها تكون ساكنة بينها، فلا تترك آثاراً في بعضها البعض، الآثار التي تستلزم "التحثث" (تدبير حثها على الحركة). أو إنها تشرع في التنافس، وهذا يعني أن قدراتها تحاول الاحجام عن السكون، لتترك تلك الآثار في بعضها البعض، لكنها سرعان ما تخفق في ذلك. وعندها، تضاعف من إرادتها له. التنافس ينم عن رغبة خائبة في الجمع، في تأليف جماعة، ينم عن إرادة الجمع الباطل مسبقاً.

7. لا يهم ان كانت حركة الأجساد الراكضة تقدّماً، أو تراجعاً، كما في وضع آرون يودر. المهم أنها صناعة سبيل معين. ففي حين إطاحة الواقعات، وفي حين القضاء على وقعها، وفي حين إقصاء الواقع، لم يعد هناك سوى ذلك سبيلاً إلى المعنى، إلى تشكيله، إلى الحياة: الإيقاع.

8. كل راكض يستطيع أن يصنع إيقاعه بتكرار الحركة، وكل راكض يستطيع أن يبدل هذا الإيقاع عبر التمكن من ذلك التكرار. لا يقاس الإيقاع بالبطء أو السرعة، بل بشدته، التي، وعندما يصيبها الركود، يضجر الراكض من الإيقاع، ويمضي إلى كسره لافلاتها، وصناعة إيقاع مختلف.

9. في الركض، البطء هو سرعة وجدت شكلها واستقرت فيه، والسرعة هي بطء أخلى شكله فيكون بادياً إلى أن يعثر على غيره. في الركض، البطء هو هدف السرعة. لهذا، البطيئون هم أول الواصلين، هم الأسرع.

10. منتهى الركض، منتهى الإيقاع، منتهى تكرار الحركة، هو أن يتحول وجودنا من وجود محكوم بالتوتر إلى وجود ملحن بالوتيرة. وجود مؤلم، لكنه مملوء بالسكينة، كما وصفه شاعر في اثناء ضربه لطابة الاسكواتش على الحائط.

11. لروائية تشبّه نفسها بحيوان الغرير، الذي ما ان يسكن جحراً حتى يبقى فيه ولا يغيره البتة، يتيح الركض، وهو بمثابة تنقلها اليومي، على الاحتفاظ بأفكارها الملائمة. الرفيقة ثاقبة النظر. فلأن الفكرة هي اثر توقف التفكير، ربما من الأفضل ان يتوقف الأخير بعد الجريان، فعندها، تكون فكرته قد صقلها الجسد وايقاعه، تكون موصولة بحياة هذا الجسد، الذي، وما أن تبرز فيه، حتى تحمله على الركض اكثر.

12. ثمة في الركض وضع مخالف لجعل العرض غايته، وثمة في جعل العرض غايته مسعى إلى رسم حدود له، حيث تكون أجساده خلفها مستمتعة بالتسلط عليها، بحراستها ومعيرتها. لكن هذا المسعى، وكغيره من المساعي، كتأطير الركض بالاحتفاء، أو ربطه بسرد الإنجاز الفردي، اي الانحباس في وهم الأنا، أو جعله أداة من أدوات العيش في النكران، هو مسعى فاشل سلفاً. فمثلما يحرر الركض الاجساد من تجميدها، تقييدها-لنتذكر كاترين سويتزر، يحررها من حدود تمجيدها، عرضها أيضاً. لا يمكن السيطرة على ما قد تأتي به الأجساد، لا سيما عندما تكون أجساداً راكضة.

13. نعم، الركض سياسة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها