الإثنين 2018/11/12

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

محمد محمود فرحات.. قصّاص كبوات البشر وتآخي الأشياء

الإثنين 2018/11/12
محمد محمود فرحات.. قصّاص كبوات البشر وتآخي الأشياء
يقص فرحات، أخباراً عن حوادث وقعت له وشهدها في معتقلين إسرائيليين كان فيهما أسيراً
increase حجم الخط decrease
في نحو تسعين صفحة "صغيرة" وأولى من 274 هي الكتاب كله، يقص محمد محمود فرحات، الجرجوعي العاملي على ما كان قيل قبل منتصف القرن الماضي، أخباراً عن حوادث وقعت له وشهدها في معتقلين إسرائيليين كان فيهما أسيراً، غداة اجتياح الدولة العبرية لبنان في حزيران 1982، مع مقاتلين أسرى آخرين (محمد محمود فرحات: سنابل العمر/بين القرية والمعتقل، 2018، دار بلال للطباعة، لا ذكر للبلد). وعلى خلاف ترتيب العنوان: القرية فالمعتقل، تتقدم أخبار المعتقل أخبار القرية. فلا يتناول القص هذه إلا بعد الفراغ من تلك.

ويمهد الثلث الاول من الصفحات الخوض في موضوعات الثلثين التاليين وفي بابهما، على نحو متدرج، فيروي فصلٌ من صفحتين، حادثة أصحابها أو أبطالها "شباب برجا". فهؤلاء اقتيدوا الى معتقل أنصار بعد عملية وادي الزينة "الشهيرة" (من غير رواية). وجمع محمد جميل وفهد وخالد وماجد ورامح وغيرهم في خيمة واحدة، ضوت فيمن ضوت الكاتب. وإن لم يروِ محمد محمود وقائع العملية العسكرية "النوعية"، على قوله، فهو لم يستنكف عن وصف سيرتهم العادية في المعتقل: نكاتهم ولعبهم الشطرنج وذكرياتهم "البرجاوية" وشتائمهم "المميزة" ولعبهم الورق واختصاصهم بالليخة. ويمر الراوي على تواطؤ معتقلي المعسكر رقم 5 مع معتقلي المعسكر رقم 8 على الهرب، وتعمدهم إشعال النار في معسكرهم على رجاء صرف نظر الحراس، مرَّ الكرام. 

وفَصَلت ثلاث صور فوتوغرافية فصل شباب برجا عن الفصول التالية: صور من المعسكر المعتقل، وأخرى للكاتب الفتى في أول مراهقته، وثالثه لفصيله العسكري. وقد لا يكون اختيار الصور الثلاث اعتباطاً. فالصورة البيتية الضيعوية الأبوية (سلم الأب وراء الفتى) تتوسط الصورتين "العسكريتين"، وتمهد لانقلاب الكاتب وأخباره من الوجه الأول، الأب وحياة الاسرى ونظام المعتقل، إلى الوجه الثاني الغالب، الضيعة وناسها وأيامها. فيتخلص القص شيئاً فشيئاً من وقائع المعتقل، وهي كانت ربما داعي فرحات الأول والراجح الى الكتابة، ويدخل في موضوعه الأثير و"العميق"، وهو استعادة عالم جرجوع واقتصاص بعض آثاره.

وحين ينتقل القارئ من قراءة الشطر الاول إلى قراءة الشطر الثاني، فقد يلاحظ أن القاص روى قَصَص المعتقل على وجه قصص ضيعته وأهله. فمعتقله، أي أنصار على الأخص، هو ضيعته الموقتة والمختارة، التي اختار الأسير بعض أهلها، رفاقه ورفاق رفاقه، الأبعد فالأبعد. وتشده إلى من هم الأقرب إليه روابط "الذكريات"، على ما يكتب فرحات في فصل خص به من يسميه كاسترو، محمد الشامي. فيذكره كاسترو، في أعقاب ثلاثين سنة على سجنهم بخشبة الجورة الصحية حين تخلو من المعتقلين، فينتهز هو وأبوعمشة، لقب محمد محمود فرحات، الفرصة لينظر الإثنان "إلى داخل تلك الحفرة" ويتماران في مرآة "مياهها السوداء" "ولنتفقد عبرها حال وجوهنا وتقاسيمها، ولكي نتأكد من أن نحن لا نزال نحن". 

وتتردد في جنبات السجن مشاعر أهالي الضيع وأحكامهم الأخلاقية في حلة سياسية ثورية. فإذا روَّع الكاتب تحولُ المعتقلين، وهم يفترضون "طليعة الثائرين الفلسطينيين واللبنانيين وبعض العرب"، وحوشَ غابة "حيث القوي يأكل الضعيف"، وتلاشت الأخلاق الثورية والمبادئ الحزبية كتلاشي البخار من وعاء الشاي الكبير"، خلص إلى أن "الثورة (فقدت) قيمها وتاريخها ودماء شهدائها أمام حبيبات الفاصوليا في القصعة المعدنية" (ص61). وعزاؤه، وعزاء أصحابه، كان "الرسائل الواردة إلينا من قرانا (...) نقرأ تلك الكلمات لمئات المرات لنعيش القرية وحنان الأهل، نضع تلك الأوراق على خدودنا نشمها بشغفٍ لنشعر برائحة الحبر الآتي من الخارج" (ص62). وهذا مشهد خبرته مئات القرى منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وابتداء الهجرة ورسائل المهاجرين إلى الأهل من أقاصي "المغتربات وراء البحار"، على ما كانت تسمى. ويُحشر فيها اسم الغربةَ، وأصداؤها المحلية، ويُكنى عن البعد الذي لا تحوطه مخيلة أو واهمة.
 


ويحط محمد محمود فرحات في قريته. وهو يتصور العالم، أو أكثر العوالم اختلافاً عنها شأن السجن السياسي الكبير، على صورتها: الرفاق أقارب، والأحاديث تذكر، والعلاقات زيارات، والافتراق عداوة، إلخ. فلا ينتظم تاريخ وقائع المعسكر وحوادثه، ولا تتعاقب هذه على شاكلة حلقات تتكشف تدريجاً عن سلسلة أو سياقة مترابطة، لا اجتماعاً، ولا سياسةً، ولا مشاعر، ولا فهماً. وينتقل الراوي، كتابةً، من السجن الى الحارة، فيمر بـ"الدوش وصورة الشهيد". وهو خبر يسبق المعركة والأسر، ويتناول الخبرة الأولى بـ"تقنية الدوش" وبـ"الشامبو" وآلات الاغتسال المدنية، ومقارنتها بنظيرها الريفي. وبعد ترجح سريع على باب "الرفاقية" يستقر القص على القرية من غير عودة. ويخلف الاعتقال والقتال والحزب والرفاق وراءه. ويقبل على صفة البشر والحجر والحيوان والنبات إقبال المشتاق بعد فراق. 

فتتوالى أشياء صغيرة: فند شجرة الصنوبر البرية، والقطن المندوف، وأحجار الصوان اللامع، واللمبة الصغيرة المستلة من مصباح يعمل على البطارية، على سبيل تشبيه مغارة ميلاد، لعلها تستقبل، ليلة الرابع والعشرين من كانون الأول، مولوداً يتوسط لدى موزع الهدايا الملتحي بالثلج فيخبئ هداياه على باب المغارة. وتشق الأشياء الصغيرة طرقاتها النحيلة في وسط الناس واجتماعهم وحوادثهم. فعيد الميلاد، وعلى سبيل التداعي، الفطر والأضحى، وهذان يلابسهما، استثناءً،  "مسدس مائي أخضر اللون"، ودائماً قليل من المفرقعات وبعض الحلوى وعيدية سرعان ما تنفد، إلى زيارة المقابر والبكاء عليها. وتعقد المقارنة بين "أعيادهم" و"أعيادنا"، و"فرحهم" و"حزننا" و"سخائهم" على أطفالهم و"إمساكنا"  و"حزننا"، (تعقد) قصة في أقل من ثلاث صفحات تنتهي بثأر الرجل، محمد محمود فرحات، لطفولته: "في كل عام، وفي عيد الميلاد، أملأ منزلي بالأضواء والشرائط الملونة...". 

وما قد يتصور في صورة حكاية جبلية لبنانية (على مثال حكايات الجبل الرحبانية) تقليدية، تؤدي إلى الجمع التلقائي بين أهلي الضيعة وحزبيها (طائفتيها) في عهدة شيخها الحكيم، ومختارها المنشد والراقص العاقد على رأس دبكتها، يبدده محمد محمود فرحات ويذرره حوادثَ ووقائع تغلب خيباتها توقعاتها، وسيرَ ناس يتقلبون بين نشوة الآمال الكبيرة وبين مرارة الخسائر.

فيعود المهاجر الافريقي بعد خمسين عاماً تامة إلى جرجوع، حاملاً "بعض الثياب الوسخة البالية، (و) حبلاً لتحزيم الأحمال على ظهر الحمار، (و) إبرة لبابور الكاز وملعقة خشبية طويلة (...) إلى تلك النظارات التي بقيت على رف غرفتنا قرب المقص والمنبه" (عوينات مرتضى، ص 115-117)، هي إرث المهاجر إلى بلاد الذهب والعاج والكولا والسوداوات الفاتنات والمباحات. وتصيب العوينات أعماراً بعد وفاة صاحبها. فيتعاقب على استعمالها أجيال من الأقراب. وانتقلت من التربع على الرف إلى الاستواء على "طربيزة الفورمايكا"، "وقطعة من وجه (الأب) ووجه (الأم)"، إلى أن فني "برغي الزند الأيمن (و) صارت تعلق بالأذن اليسرى وعلى الأنف".

ويموت الناس موتاً كثيراً وأليماً في حكايات صاحب "سنابل العمر" الذي يخال نفسه ربما أديباً مهجرياً، وهو قصاص ينتمي إلى أسرة كارسون ماككيليرز (صاحبة "القلب صياد وحيد" و"المقهى الحزين") وجون شتاينبك (صاحب "في الفئران والرجال") وغيرهما من الروائيين الأميركيين "الساذجين"، على ما يقال في رسم عامل الجمرك روسو وتصويره. فالأخت الشابة مزقتها قنبلة قصفت بها الضيعة مدفعية العدو، واضطر الأب إلى حملها إلى قبرها على ظهره. وعلي، الأخ، أصيب بمرض مميت في التاسعة، أودى بجماله "اللافت" وبـ"خضرة براعم السنديان وزرقة سماء نيسان" في عينيه. ومات مع عليّ زرزوره، الطائر الاسود الذي "يجوّي"، فيلوذ بحضن علي العاجز عن المشي والقاعد على مده الخشبي، والمتكئ على "جدران الزواريب الحجرية العتيقة"، حين تتعبه "محاولة" اللعب والركض. ولما لم يحظَ جثمان علي بـ"قبر رخامي"، ولا بشاهد، ضاع أثره، شأن أثر الزرزور الذي لا يدفن.

ويجري مثل هذا الحبر في عروق عشرات القصص التي يقصها محمد محمود فرحات. وتنهض المصائر والمواضع والألوان والزوايا والنبرات والعثرات والقرابات والخطوات والأطعمة من بين الردم والأنقاض والبقايا. وذلك لأن القاص يحرص على ألا يدخل قصه في مكان على حدة، وفي زمن يقتصر عليه. فالأشياء التي تقوم من الحادثة مقام مسرحها تتمتع بروابط كثيرة جانبية ومتفرقة تشدها إلى أشياء أخرى من صنفها ومن غير صنفها. ولهذه الأشياء حيوات وأزمان لا تلتزم إيقاعاً ولا إطاراً يحصرانها في مجرى لا تحيد عنه. فهي تتتفرع وتتناثر وتتشابك. على هواها؟ على أهوائها التي لا تحصى، شأن رجع تردداتها وأصدائها في قارئها.
      
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها