الإثنين 2018/11/12

آخر تحديث: 12:54 (بيروت)

السلطان محمد الفاتح في وجوهه الأولى

الإثنين 2018/11/12
increase حجم الخط decrease
أعلنت شبكة "نتفليكس"، استعدادها لإنتاج مسلسل تلفزيوني يتناول سيرة السلطان العثماني محمد الفاتح في ست حلقات تجمع بين الدراما والوثائقيات تحت عنوان "النهضة العثمانية". يشكّل هذا المشروع عودة حديثة لمسيرة السلطان الذي أعجب بحضارة أوروبا واستقدم كبار فنّانيها إلى  بلاطه، فكان فاتحاً لعهد الاستشراق الفني.

في شباط/فبراير 1451، توفّي سادس السلاطين العثمانيين مراد الثاني، وتولّى الحكم من بعده ابنه محمد الثاني، وكان عمره آنذاك 22 سنة، وقد برز بعد تولّيه السلطة بقيامه بإعادة تنظيم إدارات السلطنة المختلفة، فعمل على تحديد موارد الدولة، ونظّم كتائب الجيش، وأمدّها بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر، كما عمل على تطوير إدارة الأقاليم، وطوّر البلاط السلطاني، مما ساهم في استقرار الدولة وتقدمها.

انتهج السلطان العثماني السابع المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، وكانت مملكة الروم الشرقية بيزنطية قاصرة في زمنه على مدينة القسطنطينية وضواحيها، فتطلّع إلى الاستيلاء عليها، ونجح في ذلك في أواخر أيار/مايو 1453. وساعدته في تحقيق هذا الهدف عوامل عديدة، أوّلها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها، والمنازعات الخارجية المستديمة مع الدول الأوروبية. حقّق محمد الثاني ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية، واتّخذ من القسطنطينية عاصمة للدولة العثمانية، وعُرف بالفاتح، وأبو الفتوح، والغازي، وصاحب النبوءة، والقيصر.

إلى ذلك، تميّز محمد الثاني بشخصيته وثقافته، وفاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم، واشتهر بمعرفته لعدد كبير من لغات عصره، كما عُرف بميله الشديد لدراسة كتب التاريخ. تواصل السلطان مع عالم أيطالي من مدينة أنكونا يدعى شيرياكو، وعهد إلى الكاتب اليوناني ميخائيل كريتوبولس مهمة تدوين سيرة حياته في قصة يظهر فيها في دور الإسكندر الجديد، واستقدم عدداً من الفنانين والمهدنسين الأوروبيين للمشاركة في إعادة بناء الإمبراطورية البيزنطية في قالبها العثماني الجديد. حوّل السلطان العثماني كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد، غير أنه حافظ على لوحاتها الفسيفسائية المسيحية كما تؤكد السجلات التاريخية التي تعود إلى تلك الحقبة، وجمع مجموعة من الذخائر المسيحية وصلتنا لائحة بها تعود إلى تموز/يوليو 1483.

افتتن محمد الفاتح بالفن الغربي، ورغب في صنع ميدالية تحمل صورته على طراز تلك التي تُصور الإمبراطور البيزنطي يوحنا الثامن باليولوغوس، وأوكلت هذه المهمة إلى الفنان كوستانزو من مدينة فيرارا، فأنجز هذه المهمة، وأنعم عليه الفاتح بلقب الفروسية. يحتفظ "متحف أشموليان" في مدينة أوكسفورد بهذه الميدالية، وهي تعود إلى العام 1478، وفيها يظهر السلطان بوضع جانبي في وجه القطعة البرونزية، وممتطياً حصاناً في ظهرها. تصفه الكتابة المرفقة السلطان بإمبراطور بيزنطة، والمعروف أن محمد الفاتح حمل لقب القيصر، واعتبر نفسه وريثا لقياصرة الروم. وقد أعيد إصدار هذه الميدالية بعد ثلاث سنوات، وجاء هذا الإصدار كتذكار للسلطان بعد رحيله عن هذه الدنيا في أيار/مايو 1481.

كذلك، أرسل محمد الفاتح إلى مجلس الشيوخ في مدينة البندقية رسالة رسمية لاستقدام بعثة فنية تضم رساما ونحاتا وسابكا للبرونز، وذلك بعد إبرام معاهدة سلام، مطلع العام 1479. بحسب ما نقله الكاتب مارينو سايرو في حوليّاته، أراد السلطان رساماً ماهراً، فأرسل مجلس الشيوخ الرسام جنتيلي بلليني. وبحسب رواية الراهب جاكوبو فيليبو فرويستي، سمع محمد الفاتح بموهبة جنتيلي بلليني الفذة، فأرسل في طلبه، وسارع مجلس الشيوخ في إيفاد الرسام، فسعى السلطان إلى اختبار مهارته قبل أن يعهد إليه بمهمة رسمه شخصياً. يحتفظ متحف "المعرض الوطني" في لندن بزيتية من توقيع جنتيلي بلليني، تحمل تاريخ 25 كانون الأول/نوفمبر 1481، وتمثل السلطان في وضع جانبي معتمراً عمامة تركية بيضاء، تحت قوس مزوّق تحدّه من كل جهة ثلاثة تيجان ترمز إلى انتصارات الفاتح في المعارك التي خاضها. وقد نسخت هذه اللوحة مرارا من قبل رسامين أوروبيين في مراحل لاحقة.

ويحتفظ متحف "المعرض الوطني" في واشنطن بميدالية من توقيع جنتيلي بلليني تمجّد محمد الفاتح، وهي غير مؤرخة. تحتل صورة السلطان في الوضعية الجانبية وجه هذه الميدالية، وتحيطها كتابة تدعوه بـ"السلطان العظيم محمد الفاتح الإمبراطور". على الظهر، تحل ثلاثة تيجان مرصوفة عموديا كما في الزيتية، وتحيطها كتابة تحمل توقيع الفنان: "جنتيللو من البندقية، الفارس الذهبي ورفيق البلاط البلاتيني". تتكرر صورة بورتريه السلطان على ميدالية من محفوظات "المتحف البريطاني" تعود إلى عام 1480 تحمل توقيع بيرتولدو دو جيوفاني، ويحمل الفاتح هنا لقب "سلطان آسيا وطرابزون واليونان الكبرى". على ظهر الميدالية، يظهر رجل منتصب فوق عربة يجرها حصانان، ممسكا بحبل يلتف حول ثلاث نساء عاريات متوجات، هن بحسب الكتابة المرفقة: آسيا، طرابزون، واليونان.

يحتفظ "سراي توبكابي" في إسطنبول بمنمنمة من نتاج المصور العثماني سنان بيغ، تجمع بين التقليد العثماني، والأثر الأوروبي في رسم الملامح الوجه بطريقة التظليل والتجسيم، وتشكل هذه اللوحة حالة استثنائية في فن الرسم العثماني الذي حافظ على أسسه المتينة حتى مطلع القرن الثامن عشر. فتح محمد الثاني من حيث لا يدري باب الاستشراق الفني العثماني، ومهّدت رحلة جنتيلي بلليني إلى البلاط لهذه المسيرة الجديدة. جذبت الإمبراطورية العثمانية عددا هائلا من المصورين المحترفين والهواة الذين قصدوها لغايات مختلفة، فمنهم من جاء لتصوير الآثار، ومنهم من جاء باحثاً عن كل ما هو مألوف وغير تقليدي. تحولت هذه الزيارات الفنية إلى تقليد راسخ، وترافقت مع إقبال السياح على اقتناء هذه الصور "التذكارية". إلى جانب أعمال تصور الآثار الرومانية التي يعشقها الأوروبي، تحضر الصور التي تسجل المشاهد التي تثير العين الإستشراقية. من جهة أخرى، تجلى هذا الاستشراق في أعمال بعض الفنانين المحليين، منهم قسطنطين قبيدغلي، وهو رسام يوناني عمل في "الدولة العثمانية العلية" متبعا أسلوب الرسامين الأوروبيين.

بقي جنتيلي بلليني حياً في الذاكرة حتى أفول الإمبراطورية العثمانية. في كتابه "ذكريات مع السلطان عبد الحميد الثاني"، يتحدث مراد دومان عن فنان إيطالي يُدعى فاوستو زونارو، أُعجب به آخر السلاطين العثمانيين، وأدخله بلاطه. أراد هذا الفنان أن يرسم السلطان، ونجح في إقناعه حين أرسل له كتاباً يقول فيه: "إن جدّك العظيم السلطان محمد الفاتح استدعى الرسام البندقي جنتيلي بلليني إلى قصر إسطنبول بواسطة دبلوماسيي جمهورية البندقية كي يرسم صورته، وأنا أيضاً من أهالي البندقية، وفي خدمتكم دائماً، فأرجو من فخامتكم إظهار الرضا والقبول على طلبي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها