الأحد 2018/11/11

آخر تحديث: 09:05 (بيروت)

"فأدبه لي" لنانسي نعوس.. مساءلة الجسد الذكوري

الأحد 2018/11/11
"فأدبه لي" لنانسي نعوس.. مساءلة الجسد الذكوري
مثيرٌ للإهتمام الاشتغال على سيميائيات حركية من الرقص البلدي بصفتها جزءاً من خطاب سياسي
increase حجم الخط decrease
“اللهمّ إنك تعلم أني اجتهدت في تأديب ولدي فلم أنجح، الله فأدبه لي".
من هذا الدعاء، استقت الكوريغراف والمخرجة نانسي نعوس عنوان عرضها الأخير "فأدبه لي"، وقد بنيت إحدى خلفياته الأساسية على الإهتمام الخاص الذي حظي بها شقيق نانسي، الذكر الوحيد بين ثلاث بنات، يسائل بنية الجسد الذكوري وتركيبته في المجتمعات العربية. 
منطلقة من مجموعة صور نمطية تشكل أطراً محددة للذكورة في العالم العربي، اشتغلت نانسي مع راقصَيها نديم بحسون وألكسندر بوليكفتش على تكثيف حركي لعدد من الدلالات.  موسيقى الديسكو التي كانت مفتتح العرض، لا تمهد لمجرد رقص مؤسلب مجاني... الأسلبة موجودة بالطبع وهي تسرّب الصورة الأولى التي تتسجل في ذاكرة معظم من كان له شقيقاً وحيداً، وعلى الأرجح معظم من كان له أشقاء: الملاكمة...

أذكر جيداً كيف كان يتعامل الذكور الراشدين، ومنهم والدي، مع أخي الذي كان يصغرني بثلاثة أعوام. المفارقة أنه أيضاً وحيد أبوَي.. لسنوات كنت أرى المشهد ذاته يتكرر: رجالٌ يختبرون قوة أخي عبر قدرته على اللكم أو الملاكمة اذا ما بلغ الأمر مداه. هذا هو الإمتحان الأول الذي يمرّ به الطفل لإختبار قوته وبالتالي رجولته. على الأرجح أن نانسي عايشت الصورة ذاتها ومثلتها على خشبة مهرجان أرصفة زقاق، بعد المرور على كل ديناميات هذه الصورة. هذا التداخل بين رقص الديسكو واستحضار حلبة ملاكمة، يسجل تناقل السلطة والقوة من مرحلة الى أخرى كما لو أن منطق القوة وربطه بالذكورة ينمو رويداً رويداً عبر الملاكمة  كلعبة لطفل الى رقص الديسكو، فعل اثبات للمراهقة. ينتهي هذا المشهد بإيماءة حركية بسيطة ومناقضة لكل هذه الذكورة التي تمثلت برقصة الديسكو: ألكسندر يجلس مديراً ظهره للجمهور وشعره منفرداً، يعيد ربطه، يفلت تلقائيا فيعيد ربطه، حتى يتقدم بحسون وبصورة مبهرة في جماليتها، تحت ضوء خافت، تمتد أيدي ألكسندر ونديم معاً لإخفاء الشعر المنفلت الذي يحيل الى الأنوثة. 


هذا مثال بسيط على اشتغال نانسي على سيميائيات حركية بسيطة جداً لتثبتها في سياقها الإجتماعي حتى تحررها من هذا السياق لاحقاً. فعل التصفيق هو فعل سيميائي حركي آخر ذهب الى أقصى مداه: من فعلٍ يتراوح بين التشجيع والتهديد، الى فعل يحيل الى الإنغماس في عملية التصفيق وتحويلها الى رقصة قبائلية، تنقلك من محور ذاتي وفردي الى محور الجماعة، حيث مزيد من الإنغماس في نظرة الآخر وحكم الاخر عليك. وهذا السعي نحو قبول الآخر لك الذي يتحول من عملية ممتعة الى عملية اجهاد قصوى، فيها قدرٌ من العنف الذي يتكرر ويتكرر حتى ينبت الخوف من منطقة الحوض حيث تعيش الأرحام. في لحظة ما يهتز جسد ألكسندر بكليته، كذلك يهتز نديم. هنا يأتي الإنتقال من التصفيق لرجولة مرجّوة، الى أنوثة بنيت على الخوف والهشاشة التي تولدت من فائض صورة الرجولة المفروضة على هذا الجسد المصنف، أنه جسد ذكوري. هذا الإهتزاز النابع من منطقة الحوض الذي يذكر بأقوى حركات الرقص البلدي – كما يحب ويصر أن يسميه ألكسندر بوليكيفتش- يبلغ ذروته، وينتقل بالمُشاهد الى حالة وجد تتعدّى كل الصور التي من الممكن أن تتنمط ضمن إطار جندري. كوريغرافيا الإهتزاز تنفي كل الصور التي قد تمثلها ثنائية الذكورة/الأنوثة وتحيل الى أصل الإنسان، هشاشته. مثيرٌ جداً للإهتمام اشتغال الثلاثي بوليكيفتش/نعوس/بحسون على سيميائيات حركية من الرقص البلدي بصفتها جزءاً من خطاب سياسي يعبّر عن الجسد المضطهد الذي تعنفه صورة الآخر أو جندرة غير مرغوبة، والذي يتآكله الخوف، ثم الهشاشة حتى يأتي القبول وحينها تضمحل دينامية القوة، التي تفرضها صورة الذكورة في هذه الحالة وتبدأ عملية تعرية الجسد والإعتراف به تدريجياً. مثيرٌ أيضاً للإهتمام اشتغال نانسي ككوريغراف، يعاونها في الدراماتورجيا عبدالله الكفري، على تعرية الجسد وربطها بفكرة القوة النابعة عن القبول بالذات، والتحرر من صور الذكورة والجندرة نفسها. ينتهي مشهد الإهتزاز والرقص البلدي بخلع كل من نديم وألكسندر لقميصيهما وبالجلوس على مائدة الجماعة: مجموعة من الصواني النحاسية يدوّرانها حولهما. ألكسندر يغسل وجهه، نديم يلوّن جبينه ووجنتيه بصباغ أحمر. وفقاً لنانسي، هذا الصباغ الأحمر يعود الى طقوس العبور من مرحلة الى أخرى عند القبائل الأفريقية، حيث يقوم الرجال بصبغ وجوه أطفالهم بالدماء عندما يتم الإنتقال الى مرحلة البلوغ.


ألكسندر يرسم شارباً على وجهه، يتقدم من الجمهور ويزغرد. الا أن تلك الزغرودة لم تعد مسموعة كما سمعناها بشكل رنان في أول العرض. فعل الزغردة الذي ينتمي الى طقوس الإحتفالات الجماعية ينتفي تماماً. شارب ألكسندر والصورة التي بناها عن الذكورة/ الرجولة لا تلائم صورة الجماعة. 


تدريجياً سيعرض كل من ألكسندر ونديم نفسيهما على ما أُحب أن أسميه "بوديوم الرجولة وانتفائها": راقصان يعرضان جسديهما، عبر ايماءات حركية لصورة الذكورة، كما يرسمها المجتمع. الا أن تلك الصورة فيها من الأسلبة التضخيم ما يجعلها مشوهة ومبهمة... وكلما تبختر ألكسندر ونديم على هذا البوديوم الذي يجعلهما عرضة لنظرات الآخرين، كلما تضخمت تلك الصورة، وكلما انتفت في الآن نفسه وكلما أصبحت الحركة بين هذين الجسدين أكثر تجانساً وأقل تصارعاً، كما أنهما انتقلا الى عالم آخر تحررا فيه من كل شيء، عاريان كلياً...


من المؤسف جداً ألا يقدّم هذا العرض مرة واحدة في لبنان ضمن مهرجان أرصفة زقاق: اذ قدمت نانسي طرحاً مبدعاً لعملها فيه من التكثيف وإختزال الدلالات وبساطة طرحها كوريغرافياً والتي تنم في جمعها عن عمق في مساءلة مفاهيم المجتمعات العربية مع الإبتعاد عن أي استعراض أو افتعال. لم يكن ليكون كل ذلك ممكنا لولا "طواعية" وبراعة أداء نديم وألكسندر، الأول رافق نانسي في أعمالها السابقة، والثاني نقل الرقص البلدي في عروضه السابقة من موقع الإمتاع الديونيزي الى مواقع أخرى تراجيدية أحياناً وسياسية أحياناً أخرى. أعتقد أن نانسي نعوس كونت فكرة هذا العرض وهي تفكر فيهما... ولشخصيتيهما دور أساسي في بناء المسار الـ"دياليكتي" للعرض.

هذا النوع من العروض يمكن مشاهدتها مرات دون الشعور بالملل، لأنه عرض يضع المشاهد في مقامات متعددة. أعلاها المقام الطقوسي الذي بلغ ذروته في مشهد الإهتزاز وهو مشهدٌ "عصيّ الوصف". لذا الأفضل أن أختم المقال هنا قبل أن يخذل فائضُ الكلمات والشرح جماليةَ عرضٍ يُنصح بمشاهدته.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها