السبت 2018/11/10

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

"أحوال أهل الغيبة" لوضاح شرارة.. محاورة سِيَر الموتى

السبت 2018/11/10
"أحوال أهل الغيبة" لوضاح شرارة.. محاورة سِيَر الموتى
أقبلت على كتابة ما كتبت فَرحاً فرحاً عميقاً
increase حجم الخط decrease
معظم العجالات التي يجمعها الباحث اللبناني، وضاح شرارة في كتابه "أحوال أهل الغيبة/ خاتمة الأحزان والمراثي"(*)، كُتبت في ناس عرفهم، على درجات، وأنحاء متفاوتة ومختلفة من المعرفة، وفي مناسبة رحيلهم وغيابهم، على مدى سنوات امتدت من بداية الثمانينات حتى العام 2015. وهذه العجالات، تُوّجت بمقدمة عنوانها "سير مشتركة" ومقاربة أخيرة موسومة بـ"خاتمة المراثي"، كتبت في نيسان 2018، وتنطلق من زعم الشاعر الفرنسي جول سوبرفييل(1884 – 1960)، أن الأحياء حريّ بهم الإغلاظ للموتى في القول أو مخاطبتهم بالشدّة. والداعي إلى مثل هذه الغلظة أو الشدّة هو انصراف الموتى، موتانا، عن عالمنا، وإدارتهم الظهر له ونسيانه ربما، وانشغالهم بعالمهم الجديد. فيصمّون الأذن عن بثنا شكوانا، ومناشدتنا لهم ما لا طاقة لهم به. على أن الشاعر، مُقترح هذا القول لا يلبث أن يسرّ إلى أمه، إن بعضاً من خفقات قلبها يتخلل خفقات قلبه، وهو يحس اختلاط القلبين، الخافقين، ويأنس إليه إلى تعرف الخفقة الداخلية. ويلفت شرارة إلى أنه، حين ترجم شعر سوبرفييل في أمه قبل أربعة عقود، لم يعلم أن ما ينقله إلى لغته وفيها، هو طرف خيط يمسكه على عتبة تقصيه وبحثه الكتابي في عالم الراحلين عن دُنى الأحياء وعوالمهم.

ويكتب شرارة مقالاته في عشرات الناس الذين عرفهم، على وجوه ومقادير ومن المعرفة "شديدة التفاوت والفروق"، والمقالات فيهم بحسبه "دعوة مُلحَّة، ربما متعسفة إلى المضي على القول والكلام، على رغم هاوية الدموع والصمت". و"الدعوة تحمل الموتى المخاطَبين على إبداء الرأي في أهل الدنيا الذين خلفوهم وراءهم وفي مسائلهم وشواغلهم التي انقطعوا منها راضين مطمئنين، على حساب المقيمين اللاحقين". وتعريف الحياة "بجواز الرجوع فيما سبق وحصل وانقضى، وطوى نفسه على نفسه من غير زيادة ترجى ولا نقصان، يقضي بتعريف الموت بخلاف هذه. والكتابة في (هؤلاء) الموتى ليست، على أي وجه، كتابة في موتهم، وفي انقلابهم على الحياة المجتمعة والمتماسكة وفي وجدان او "ذات عين" او "مفترق"(...) فالموتى، في معرض عجالات وضاح شرارة الآنفة، وعلى خلاف الأنصاب التذكارية والاحتفالية الموقوفة على الإحاطة بهم وتدوين أعم سماتهم".

يستعيد شرارة في مقالاته ما حسبه أن هؤلاء الراحلين كانوا، وما جمعه بهم واليهم من قريب أو من بعيد "صيغة سيرة مشتركة". وبعضهم لا علم باشتراكه في ما يشركه المؤلف فيه. ونشأت السير المشتركة أو "الوديعة"، بحسب تسميته، من التوجه إلى واحد (وكل واحد على حدة) من أهل الغيبة، يسأله عن الحادثة أو جملة الحوادث التي لابست لقاءهما (أي الكاتب والغائب)، وأرست هذا اللقاء معلماً أو رسماً فريداً على ابتداء أو استهلال. وهو يقول "فلا عجب إذا لم يكن الحزن الحادي إلى كتابة هذه السير". فلم يكتب ما كتب في من غابوا لا متوجعاً ولا نادباً أو راثياً "أقبلت على كتابة ما كتبت فَرحاً فرحاً عميقاً. فهذه الكتابة تشبه شبهاً قوياً المحادثة أو المحاورة، ومحادثة أهل الغيبة لا تحتاج إلى "كتب" يتولى السحرة والمُحضرون أو أصحاب الآخذات تسطيرها، وطلب شفاعتها"...

والسِّير المشتركة أو "الوديعة" تجمع "كشكولاً" و"تأتلف على فرادة متطرفة"، بعض الأقرباء (الجدة "تاتا" زينب عسيران، والعم محمد شرارة الذي توفي في بغداد) و"الرفاق" (الشيوعي الأرمني أرتين مادويان، و"الثوريان" مرشد شبو وعلي شعيب، الشهيران في عملية السطو على بنك اوف أميركا)، والناشط النقابي والسياسي الخارج عن الشيوعية الحزبية والسوفياتية بشير هلال، والناشطة وداد شختورة، والمخرج كريستان غازي، والسياسي اليمني عبد الفتاح اسماعيل، وشخصيات قضت انتحاراً (الفنانة داليدا، الدكتور الجامعي رالف رزق الله، واليسارية المصرية أروى صالح..) أو اعداماً مثل الكاتب السوداني محمود محمد طه، أو اغتيالا (مثل المفكر اللبناني حسين مروة والباحث الفرنسي ميشال سورا)، هذا عدا عن الصحافيين (غسان تويني، هاني درويش)، ورجال دين (علي الزين، محمد حسين فضل الله)، والروائيين (إحسان عبد القدوس، توفيق الحكيم، عبد الرحمن الشرقاوي، جان جينيه)، والناشرين مثل بشير الداعوق، وشخصيات (محلية) مثل عبد المنعم بيضاوي وجميل قصير وحسين حويلي (أو "الأخ" هو عامل الهاتف في جريدة الحياة وقتل في حادث مروري في وسط بيروت)، وعدد من الشعراء (محمود درويش، نزار قباني، بسام حجار، وممثلين وممثلات مثل مادونا غازي (حظيت بثلاث مقالات) واندريه جدعون وسلفانا مانغانو، وآفا غاردنر، دون ان ننسى الراقصة اليونانية ناديا جمال، وقليل من المقالات في ذكرى حادثة جرّت موتاً كثيرا وخلفت أمواتاً كثيرين، مثل 5 حزيران و13 نيسان. وتصل الكتابة عن السير إلى زمن الأحداث السورية والكتابة عن المدن والشخصيات والطفل الشهير إيلان الكردي، وبين كل السير، يأتي ضابط الاستخبارات السورية الذي استلم الملف اللبناني، غازي كنعان، في مقالة عنه اسماً صلفاً ونافراً وغريباً وشهيراً بالفتك وصناعة حرب الأخوة وحرب الآخرين والسيارات المفخخة والاغتيالات وسائر المشتقات الاستبدادية.

وكتابة وضاح شرارة سيره المشتركة محاورتهم، تختلف باختلاف أشخاصها، فـ"المعاني تصنعها الفجوة التي أحرقها "الواقع"، والسير، تمضي بعد موت أصحابها، على التغيير والتطور (الانتقال من طورٍ إلى طورٍ) فكأن سيراً أخرى تكتب لمن رحلوا، فهي إرث مشاع له وقع ميتافيزيقي، ووقع الكتابة يختلف بوقع الأشخاص والأدوار والمعاني، وقع الكاتب ووقع الغائب. الرقة التي يكتب فيها شرارة عن مادونا غازي، الممثلة الشهيرة التي قضت في حادث سير في الأردن، والتي "تستشعر الفقد كما لا أحد يعرف"، تختلف عن الشدّة التي يتناول فيها غيرها من الأسماء السياسية أو المتورطة في نوازع وادعاءات. وما يكتبه عن الشاعر بسام حجار بالطبع لا يشبه ما يكتبه عن محمود درويش، واللاشبه ناتج عن أصحاب السير ومسرى سيرهم، فمنزلية شاعر وحميميته ومكانيته، بعيدة كل البعد من "استعراضية" الآخر ونضالاته وكلماته الرنانة، أو غزليات الآخر ونسائياته وياسمينه.

والكتابة عن شخص أو أشخاص أحياناً تكون فعل إدانة لجماعات وأنماط وسياسات. فحين يكتب شرارة عن مرشد شبو وعلي شعيب لا يقصد شخصيهما تحديداً، بل من أحاطوا بهما في زمنهما، وكذا الأمر مع الشيوعيين حسين مروة وأرتين مادويان. وحين يكتب عن إعدام الكاتب السوداني محمود محمد طه الذي أُعدم وهو يبتسم، فهو ليشير إلى صمت الرأي العام (العربي) عن إعدامه، وكذا الأمر في المقالة عن الباحث الفرنسي ميشال سورا، فبعض أهل الثقافة اللبنانية لم يستنكروا ولم يتحركوا حين خطف الكاتب الأعزل والمعروف، وبعضهم ساواه بالامبريالية، ورجل الدين المندفع الي الاهتمام بـ"المظلومين" واليتامى لم تعنه مظلومية الباحث الفرنسي.

والسير المستعادة أو السير التي يكتبها وضاح شرارة، والمنطوية على وحدة وفنية عصية على التذرر. يقدم الكاتب على تناولها او تناول سيرة منها، يلفي نفسه باحثاً عن اتفاق خفي ولا ريب فيه بين لحظتين: لحظة أسفر فيها من قضى عن علامته الخفية ووديعة خلاصه، وحين ترددت أصداء الرؤيا في سيرة الكاتب المستعادة والبارقة، فيكاد لا يعرف الكاتب (المستعيد) ما هو منه، من أخص خاصه، ومن هو صاحب العلاقة الخفية المتواري.

(*) صدر عن "منشورات رياض الريس" في بيروت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها