الخميس 2018/11/01

آخر تحديث: 10:44 (بيروت)

طارق رمضان وأسئلة "مي تو"

الخميس 2018/11/01
طارق رمضان وأسئلة "مي تو"
increase حجم الخط decrease
انشغلت فرنسا، خلال الأيام الأخيرة، بمستجدات ملف الأكاديمي والمثقف الإسلامي، طارق رمضان، حفيد مؤسس "جماعة الإخوان المسلمين" حسن البنا، والمحتجز قيد التحقيق بتهمة الاعتداء الجنسي على امرأتين. فبعدما دأب رمضان، منذ احتجازه في فرنسا قبل ثمانية أشهر، على إنكار أي اتصال جنسي بالمدّعيتين، تسربت أخيراً رسائل نصية تؤكد انخراطه في علاقة جنسية معهما، وفي بعض الرسائل كان يعتذر عن ممارسات "خشنة". هكذا، اضطر رمضان إلى التراجع عن أقواله السابقة والاعتراف بالعلاقتين الجنسيتين، مع إصراره على أنهما كانتا بالتراضي. والحال إن تلك الرسائل النصية، بحسب التحليلات الإعلامية والقانونية، سيف ذو حدّين. فإذا أرغمت رمضان، وهو الداعية الإسلامي والمتزوج والأب لأربعة أولاد، على الاعتراف بجنس مارسه خارج إطار الزواج، فإنها أيضاً بيّنت دخول المدّعيتين في علاقة معه برضاهما، إذ تقول إحداهما في رسالة إلى رمضان "أغار من تابعيك".

التفاصيل تتشعب، والجدل لا ينتهي. لكن، قبل الدخول في دقائق السجال الذي يبدأ بالجندر ولا ينتهي بسياسات الهوية، لا بد من وقفة تذكُّر: هذا واحد من ملفات بالمئات وربما بالآلاف فتَحَتها حول العالم، حملةُ "مي تو" التي أتمّت أخيراً عامها الأول. عام كامل من البوح والفضح، التراشق والمحاسبة، والكثير الكثير من الألم. عام كامل من نخر أسوار النخب والحلقات الأكثر تأثيراً في الوعي العام. وكان أيضاً عاماً لشطحات تطهرية مزعجة، خصوصاً في عالم الفن والإبداع، من قبيل ممارسة الرقابة على ملصقات للوحات إيغون شيلي (1890-1918) التي تصور عراة، أو الدعوة إلى إزالة لوحة لبالثوس (1908-2001) من متحف متروبوليتان نيويورك بحجة أنها تعتبر دفاعاً عن الاعتداء الجنسي على الأطفال.

وفي خلال سنة أولى "مي تو"، في الولايات المتحدة مثلاً، فَقَد 200 رجل بارز في مجاله، وظيفته أو دوره القيادي، بسبب ادعاءات علنية بالتحرش/الاعتداء الجنسي، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز". وفي أقل تقدير أيضاً، تحدث 920 شخصاً عن التعرض لشكل من أشكال الانتهاك الجنسي على يد واحد أو أكثر من هؤلاء الرجال المئتين. وتكتسب الأرقام ثقلاً لدى مقارنتها بحصيلة العام السابق على انطلاقة "مي تو"، وهي 30 رجلاً استقالوا أو أقيلوا من عملهم إثر ادعاءات علنية بالتحرش. لكن الرقم الأكثر إثارة للاهتمام يشير إلى 124 شخصاً عُينوا في تلك الوظائف/الأدوار الشاغرة، 54 منهم نساء، أي قرابة النصف. وهذا ما سيستقطب أنظار المراقبين لفترة مقبلة: كيف سيكون أداء النساء في السلطة، على الأقل تلك العينة؟

لطالما قالت الدراسات أن النساء يمارسن القيادة بشكل مختلف: يخلقن بيئة عمل أكثر احتراماً، حيث لا يرجّح انتشار التحرش، وحيث تشعر النساء براحة الإبلاغ عنه. النساء في القيادة يوظّفن نساء بمعدل أكبر من القادة الرجال، وهن أكثر مراعاة للمساواة في الرواتب والفرص. وفي الحكومة، بيّنت النساء أنهن أكثر تعاوناً وحيادية في ما بينهن، في ما يتعلق بتمرير سياسات داعمة للنساء والأطفال والرعاية الاجتماعية، ولو انتمَين إلى أحزاب متنافسة. لكن هذا لا ينفي وجود نساء ممن يُدرن الدفة بأسوأ العقليات الذكورية. فأين سيرسو المؤشر في هذا المختبر الحي بين أيدينا؟ وهل هذا الصعود النسائي للسلطة مكافأة مُستَحَقة بالكفاءة؟ أم فخ تمرير القيادة لهن في مراحل انتقالية يزيد فيها احتمال الفشل؟

عودة إلى قضية طارق رمضان. لعل معطياتها الأكثر دسامة، منذ تكشفها بأثر من "مي تو"، ليست تلك المتلازمة والخطوط الحقوقية والنسوية، على أهميتها. بل في النقاشات والظواهر الفرعية على ضفتي النزاع.

فمن جهة، استفادت من الحملة الغربية امرأة فرنسية الجنسية من أصول تونسية، لرفع الصوت في وجه رجل سويسري الجنسية، يدرّس في أوكسفورد، وهو من أصول مصرية. ذلك أن الصراع ههنا ليس غربياً مع الإسلام، ولا غربياً داخلياً، بل في موضع ثالث أكثر تعقيداً، وجديد نوعاً ما. والأرجح أن رجلاً بالمكانة هذه ما كان ليلاحق قانونياً هكذا في أي بلد عربي، إلا إذا كانت السلطة قد اتخذت قراراً بتحطيمه.

ومن جهة ثانية، فإن الاحتجاجات على ما قيل إنها تجاوزات قانونية في حق رمضان (حبس انفرادي، منع عائلته من الاتصال به لأسابيع، ورفض الإفراج عنه بكفالة ريثما يقدم للمحاكمة رغم تدهور صحته) لم تنحصر في حفنة من المنابر العربية أو الإسلامية، بل سلطت عليها الضوء أقلام صحافيين وكتّاب ومثقفين مرموقين، في فرنسا وبريطانيا وأميركا. بل وتساءل بعضهم، لا سيما على خلفية طموح سياسي كان محتملاً لرمضان، وهو المؤثر في عدد هائل من المريدين: "هل للعدالة شكل ينطبق على المسلمين في فرنسا، وشكل آخر للباقين؟". وفي الوسط بين الضفتين، ترتسم الإشكاليات القديمة ذاتها إنما بمحاولات جديدة للإجابة: ما هي حدود التراضي في العلاقات الجنسية؟ أين تنتهي الموافقة وأين يبدأ الانتهاك؟ وبأي مستوى من الأدلة؟ ومَن يجدر به تقديمها، المدّعية أم المتهم؟ وهل القانون هو فعلاً الفيصل الوحيد في تلك القضايا؟ أم أن الوصمة التي يتكفل بها الإعلام، عن قصد أو عن غير قصد، ومعه الشبكات الاجتماعية، باتت هي السيف الأمضى على رقاب المُدّعيات والمُدَّعى عليهم سواء بسواء؟

"مي تو"، أو "أنا أيضاً" أو "أنا كمان"، ازدهرت كذلك في العالم العربي. وإن كان الجبين يندى قبل محاولة رصد نتائج ما، على أيدي السلطة أو المجتمع المدني، في مقابل جرأة مئات النساء العربيات في الحديث عما تعرضن له. إلا أن المعيار النسبي قد يخفف الإحباط. فمجرد التفكير في أن بلداً مثل مصر، حيث تفيد إحصاءات الأمم المتحدة بأن 99% من الإناث تعرّضن لشكل من أشكال التحرش، تمكّن من خلق حالة محلية فعلية اسمها "مي تو"، بالنقاش المحيط بها، وطبعاً بمحاربيها المحافظين، فهذا إنجاز غير قليل. فبعدما كان الموضوع يثار في الإعلام موسمياً (لا سيما في الأعياد حينما تنفلت الجموع في الشوارع والميادين)، وبعدما كان حبيس تقارير المنظمات وورش العمل، صار له إطار "شعبي"، وباتت للضحايا أصوات، وحكايات تُحكى وتُسمَع. صحيح أن "ثورة يناير" كانت سباقة في تفجير الموضوع، إذ اهتم ناشطون بتوثيقها وفتح النقاش حولها ومتابعتها قانونياً، كإشكالية وطنية ووعي عام. لكن الموضوع سرعان ما طوته صفحات العنف والقلق من صعود "الإخوان" إلى السلطة، ثم الثورة المضادة في 30 يونيو، ثم الهزل السياسي والاقتصادي والحرّياتي منذ تولي السيسي السلطة كرأس لرثاثة لا تنضب. وجاءت "مي تو" لتنعش القضية، رغم كل ما يصحّ قوله عن مبالغات أو سوء استغلال للتريند. فهاشتاغ مفتوح للعموم ومدّ إلكتروني بالحجم هذا، لا بد أن يساوره شطط من داخله، تماماً كما سينقضّ عليه الخطاب السائد عن مسؤولية الأنثى إذ "تبرز مفاتنها". وبين هذا وذاك، ثمة ما يستحق.

سنة أولى "مي تو". الموجة ما زالت ملفتة. وصلت أخيراً إلى الهند، حيث الاغتصاب والتحرش أزمة وطنية فعلية، وبدأت تنخر "بوليوود" أسوة بـ"هوليوود". في الصين، المراقبة الكترونياً، النساء وجدن بدائل. كما النقد لا يوفّر "مي تي"، من المتعاطفين والمناوئين معاً، مثلاً: الأهداف التغييرية للحملة ليست واضحة، لا تمييز منصفاً بين المستويات المختلفة للتحرش والاعتداء، المحاسبة والتشهير فيهما مبالغات أحياناً، وثمة قطاعات ما زالت بمنأى عن الفضح كممارسات رجال الشرطة. لكن الأكثر إثارة ربما يكون تحول الجندر إلى محك عملي للبزنس، والحكومات، والثقافة، والأكاديميا، إضافة إلى الحب نفسه. فهل سيصمد أم سيتغوّل؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها