الثلاثاء 2018/10/09

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

"باب الخيمة" شهادة محمود الورداني عن فساد الصحافة الثقافية

الثلاثاء 2018/10/09
"باب الخيمة" شهادة محمود الورداني عن فساد الصحافة الثقافية
السفر في مواكب تأييد للديكتاتور أمر لا يمكن تبريره
increase حجم الخط decrease
لا يصنع محمود الورداني في أعماله، إلا إعادة كتابة سيرته الذاتية، لكن بشكل فانتازي. روايته قبل الأخيرة "البحث عن دينا"، مثلاً، شاهدة على ذلك، فهو بطل القصة التي يرويها عن ثورة يناير، يشاركه في أحداثها صديقه الفنان التشكيلي المعروف محمد شهدي، والناشط الحقوقي مالك عدلي، وغيرهما ممن انخرطوا في الاحتجاجات، بينما يتجول معهم أشباح الكتّاب الراحلين، وتصاحبهم نعوش طائرة أو ملائكة منزوعة الأجنحة. يوثق الورداني للثورة، تحديدًا ما يخشى عليه من أن يضيعه النسيان وضلالات بروباغندا النظام. وفي "باب الخيمة"، أحدث أعماله، لا يبدو أن ثمة طارئاً على استراتيجيته، حتى وإن تستر وراء بطل أطلق عليه اسم "جمال الصاوي".


في "باب الخيمة"(*)، يزيّف الورداني الوثائق –إذا اعتبرنا الاسم وثيقة- ولا يختلق الأحداث. فثمة أشخاص ومؤسسات صحافية معروفة، لكنها تتسيد المشهد الروائي بأسماء مستعارة. بينما تظهر، في الوقت نفسه، في مواضع أخرى من الرواية، بأسمائها المعروفة ككيانات راسخة. هكذا يصنع سيرته الفانتازية، فيحقق من خلالها هدفه التوثيقي. لكنه، هذه المرة، لا يقدم واقعًا تأزم حتى استحال سحريًا، وإنما يطرح الحقيقة وكأنها صارت -من فرط تجاهلها- زائفة.

قد يبدو النسيج الروائي كما صاغه الورداني، ساذجًا. فالتقارب اللغوي بين اسم مؤسستي "آخر خبر" و"أخبار اليوم"، مثلًا، ليس بعيداً، خصوصاً أن الأخيرة تضم إصدارًا يحمل اسم "آخر ساعة". كذلك، لا يحتاج الأمر إلى عناء، للربط بين اسمي إبراهيم السعيد، رئيس مجلس إدارة "آخر خبر"، وإبراهيم سعدة رئيس مجلس إدارة "أخبار اليوم"، وهو اتصال لا يقطعه أن تظهر"أخبار اليوم" ككيان حقيقي في الرواية، أو أن تصبح أخبار الأدب "المستقبل"، ويكون جمال الغيطاني "يوسف مطاوع"، حتى وإن ظهر الأخير في الرواية شاعرًا لا روائياً. بل إن الأمر يبدو أقرب إلى غمزة تواطؤ ما، يعقده الكاتب مع قارئه المتخيل.

الرواية وبطلها جمال الصاوي، الصحافي في مجلة "المستقبل" (وهي دورية ثقافية أسبوعية، تشبه في تاريخ نشأتها وواقعها جريدة "أخبار الأدب" التي أسسها الروائي الراحل جمال الغيطاني مطلع التسعينات)، تبدأ بأزمة. فهو على أعتاب إجراء مقابلة صحافية، أُرغِم عليها مع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وهي الخطوة التي يبدأ عندها باسترجاع حياته وتقييمها، منذ أن كان ناشطًا يساريًا في صفوف الحركة الطلابية نهاية السبعينات، قبل أن يعمل صحافيًا بالقطعة لدى صحف عربية المختلفة، ثم ينضم لاحقًا إلى هيئة تحرير مجلة "المستقبل" الوليدة التي تصدرها مؤسسة "آخر خبر".

ويضع الورداني القارئ أمام نموذجين يبدوان ظاهريًا على تناقض تام، هما يوسف مطاوع، رئيس تحرير "المستقبل"، الانتهازي الذي فضّل التقرب من النظام على الأدب، والثاني هو عبدالرحمن سبعاوي، الشاعر المناضل الذي دفع من عمره سنوات كثيرة معتقلاً في سجون النظام أو منفيًا خارج وطنه. لكن القارئ سرعان ما ينتبه إلى أن الشخصيتين وجهان لعملة واحدة. فكلاهما يعمل من أجل تنفيذ أجندة استبدادية. مطاوع الذي تقرّب من النظام ربما ليضمن لنفسه نفوذاً كبيرًا في الوسط الثقافي وغيره من الأوساط، لا يختلف كثيرًا عن سبعاوي الذي أفنى كهولته وشيخوخته في تأسيس صحف ثقافية تخدم أجندة أنظمة استبدادية مثل سوريا الأسد وعراق صدام حسين وليبيا القذافي، ربما ليضمن لنفسه حياة مادية كريمة، حتى أنه يضطر في النهاية إلى استخدام صاحبه "جمال الصاوي" لإجراء حوار مع القذافي كوسيلة ضغط يرهب بها المسؤولين الليبيين الذين يماطلون في منحه مستحقاته عن العمل في بعض المشاريع الصحافية التي مولتها الجماهيرية.

يثير الورداني، بروايته التي ترصد فترة مهمة من تاريخ العمل الصحافي في ظل إطلاق الكثير من الصحف العربية المدعومة من الاقتصاد النفطي، إشكالية كبرى تمس العاملين في حقل "الإتاحة الثقافية"، والذين يظنون إبداعهم مستقلاً عن انتمائهم وظيفياً إلى مؤسسات مؤدلجة، سواء كانت تابعة إلى أنظمة بلادهم أو أنظمة أخرى أجنبية. لأنهم، في سبيل الجري وراء "لقمة العيش"، يقترفون يوميًا كل ما يناقض ما طمحوا إلى ترسيخه إبداعيًا من قيم. وهي الإشكالية التي تبدو، رغم بداهتها، محل إنكار مستمر، يجسدها بطل الرواية جمال الصاوي الذي ظل لام نفسه طويلاً لقبوله حضور مهرجان شعري يرعاه صدام حسين، حتى انتهى به الحال في الطائرة المتجهة إلى سرت لمقابلة القذافي نفسه. يقول الصاوي: "إن يكتب موضوعات وتُنشر في جريدة أو مجلة عراقية مسألة يمكن ابتلاعها، فهي في النهاية جرائد عربية، مثلها مثل الكويتية أو الخليجية الأخرى، لكن السفر في مواكب تأييد للديكتاتور أمر لا يمكن تبريره، وفي الوقت نفسه لن يكون مقبولًا أن يرفض السفر، ثم يستمر في التعامل مع مطاوع والنشر في جريدة الثورة، الجريدة الرسمية لحزب البعث، مع الأخذ في الاعتبار أنها مصدر الدخل الوحيد الآن. أمضى أياماً يقلب الأمر على وجوهه، هل يذهب للديكتاتور مثلما يفعل الجميع، أم يمتنع عن الذهاب والنشر في الثورة معًا؟ وكيف يواجه أصدقاءه وزملاءه الذين كان يتفاخر مثلهم برفض الديكتاتور ودعوات الديكتاتور؟ بل وكيف يواجه نفسه"؟

يعتمد الورداني في "باب الخيمة" على لغة الصنعة، وهي هنا الصحافة، كلغة سردية، يصوغ عبر مصطلحاتها الدارجة حكاية بطله، راصدًا كل ما اعترى تلك الصناعة من عوار وفساد أخلاقي، إذ باتت تعتمد على الفهلوة كأساس مهني، بينما تقودها مجموعة من المرتزقة تغلبهم رغباتهم الجنسية المكبوتة. ومن خلال ذلك الخط السردي العام، يوثق الكاتب للعديد من المواقف الدالة على تدهور المهنة، وتحول أهدافها: "رأى الطائرة ورأى الكثيرين.. يوسف إدريس وفتحي غانم وصبري موسى وخيري شلبي وجمال الغيطاني والقعيد، رأى شعراء التفعيلة الذين طالما جلجلت قصائدهم في ندوات القاهرة الخالية من الناس، رأى عشرات الصحافيات والصحافيين، كما رأى آخرين لم يحدث أن التقاهم من قبل مطلقًا. وجد نفسه جالسًا بجوار الروائي خيري شلبي الذي سبق أن التقاه كثيرًا في القاهرة وبينهما مودة قديمة. وعندما التفت خلفه إثر ضجة مفاجئة، شاهد حركة ملحوظة في المقاعد الخلفية، ومال يسأل خيري الجالس بجواره. التفت الرجل أيضًا إلى الخلف، ثم انفجر ضاحكًا، وأوضح لجمال أن هناك صحافيًا معروفًا يتولى تغيير العملة في الطائرة لمن لم يتمكن من ذلك من أعضاء الوفد قبل السفر، وفي كل سفر من هذا النوع، عادة ما يتولى هو، ولا أحد غيره، المهمة نفسها. ومال عليه أكثر وأضاف بصوت خفيض أن أحدهم حاول في إحدى المرات أن يزاحمه، فنال علقة ساخنة جعلته يلوذ بالفرار ويترك الساحة تمامًا، ثم انفجر ضاحكًا وهو يضيف: يكسب هذا الرجل من تغيير العملة أثناء سفره مع الوفود أكثر مما يكسبه من عمله كصحافي".

لا يقف الجهد التوثيقي للورداني، كعادة نصوصه، حد أحداث الواقع الروائي الذي تدور حول الأحداث، وإنما يمتد إلى توثيق كل ما يخشي عليه الروائي من أن يضيع بفعل دينامية التغييرات الاجتماعية والسياسية. كمثل ما جاء في قصة زواجه: "يتذكر جمال جيدًا أنها ذهبت (زوجته) إلى كنيسة سانت تريز. في تلك الأيام كانت العرائس، قبطيات ومسلمات، ممن لا يقدرن على شراء فستان الفرح، يستعرن من الكنيسة فستاناً مما تبرعت به عرائس الكنيسة. تركت وداد إسوارتها الذهب رهناً لدى الراهب وحضرت القران بفستان كان حكاية، حتى إن المدعوين تعالت أصواتهم وهم يحدقون في الفستان الأبيض المشغول بورود باللون الروز، وأعادته بعد يومين مكويا نظيفًا لتسترد إسورتها، وهو ما فعلته مرة ثانية في الزفاف، واستعارت فستاناً مفتوح الصدر. تلك كانت شُبرا التي غابت ربما إلى الأبد".

قد تبرز المعطيات التي اشتملت عليها "باب الخيمة"، خصوصاً أنها تناقش واقع الوسط الثقافي، الرواية وكأنها تنتمي إلى أدب النميمة، لكن اعتبار تلك الصيغة البنيوية التي اعتمد عليها الورداني، حيلة للإلهاء عن حقيقة من يقصدهم الكاتب، حُكم يبتعد عن تجربته الروائية، وعن نظرته للأدب بوصفه التزامًا بقضية. فالرغبة في توثيق شهادته عما جرى، تمثل هاجسًا أساسيًا في كتابته، وسيبدو معها اختلاق عالم خيالي بالكامل لتمرير أفكاره، بمثابة التواء على رؤيته الشخصية لأدبه. فالحيلة السردية البادية في ذلك التقارب اللفظي بين الأسماء، أو في الإلهاء بذكر الأشخاص المقصودين بالاستعارة كفاعلين في السرد بشخصوهم الحقيقية، تبدو وسيلة لجر القارئ إلى ما هو أبعد من الانغماس في البحث عن الشخصيات الحقيقية المقصودة في الرواية. مع احتفاظ النص لنفسه، في الوقت ذاته، بصيغته التوثيقية كشهادة عما جرى في تلك الفترة من عمر الصحافة الثقافية في مصر والعالم العربي منذ منتصف الثمانينات وحتى بداية الألفية الجديدة.

(*) صدرت الرواية عن دار العين بالقاهرة في 266 صفحة من القطع المتوسط.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها