الأحد 2018/10/07

آخر تحديث: 10:25 (بيروت)

نجمة بول بوت الضائعة

الأحد 2018/10/07
نجمة بول بوت الضائعة
خلع بول بوت ثيابه باستثناء سرواله الداخلي وألقى بنفسه في الماء
increase حجم الخط decrease
طارت الصحافية النرويجية سيغريد هاوغسغيرد رغم تحذيرات وزارة خارجية بلدها إلى البلد الأكثر دموية وجنوناً في العالم.
حطتْ هذه الإوزة المهاجرة من حافة القطب المتجمد الشمالي وحدها في مطار بوشنتونج، ومعها تأشيرة دخول قانونية، وآلة تسجيل ماركة سوني، وكاميرا تصوير عالية الجودة "كوداك"، وحزمة أوراق وأقلام رصاص، وحقيبة جلدية تحوي ملابس خفيفة ملائمة لطقس كمبوديا المداري الحار.

أربعة فنادق متهالكة ومن بقايا عهد الاستعمار الفرنسي كان مسموحاً لها باستقبال الأجانب. لقد كانت كلها مشغولة بالكامل، وتعج بثوار من مختلف أنحاء العالم وكأنها سوق شعبي.
لفت عليها جميعاً ولم يمنحها أيّ منها غرفة، وحتى سائق التاكسي الكهل رفض بهلع مقترحها بأن يستضيفها في بيته بضع ساعات ريثما يطلع النهار، وكان خيارها المتبقي هو أن تعترف بفشلها وتأمره بالتوجه إلى المطار لترحل مع أول طائرة مغادرة.

سيغريد شابة متوسطة القامة، رشيقة القوام، شعرها أشقر عاجي، عيناها فيروزيتان واسعتان، أنفها أقنى، وجهها مربع، وفمها خمري يقتل ذوي القلوب الضعيفة. وأحد هؤلاء الذين قتلتهم بسحرها هو رئيس تحرير صحيفة "نوريجر" الذي دفع بأريحية تكاليف تذاكر الطيران ومصروفاتها الشخصية لتعد تحقيقاً صحافياً عن التجربة الثورية الكمبوتشية التي بدأت تفوح منها روائح أزكمت أنوف العالم!

فتاة من نسل الفايكنغ وفي الرابعة والعشرين من عمرها ما كان لشيء أن يثنيها عن عزمها ولا حتى التهديد باغتصاب جدتها المحنطة في المتحف.. طلبت من سائق التاكسي أن يرجع مرة أخرى إلى نزل "لؤلؤة آسيا" الذي راق لها، وعندما وصلت نقدته أجرته وحملتْ حقيبتها، وقد ارتسم خط دقيق مثل إبرة بين حاجبيها.

في بهو الفندق أعلنت بتفاخر لموظفي الاستقبال أنها أتت من أوسلو لإجراء حوار صحافي مع الأخ رقم واحد الرفيق بول بوت رئيس وزراء كمبوتشيا الديمقراطية.
الموظف الكمبودي الوسيم تجمد لوهلة وفتح عينيه على مصراعيهما وكأنه يتخيلها في حضرة القائد، فكف عن لامبالاته وابتساماته المترفعة ووعدها بتوفير غرفة لائقة، وقد ظهرت بشاشة متملقة ذليلة على محياه.

أعلن الموظف النبأ باللغة الخميرية، وفجأة كأنهم سمعوا طلقة مدفع توقف اللغط وهدأت حركة المتواجدين وركزوا أنظارهم على الفتاة الشقراء.
المسؤول الحزبي البدين الذي كان يزاحمها بفظاظة انكمش على نفسه وأنزل مرفقه التي كان يلكزها بها، وتخلى عن صلفه وغروره وظهرت عليه وداعة تليق بالأطفال!

العامل المكلف بحمل الحقائب الذي كان يجلس شبه مستلق على الأريكة وقفتْ كل شعرة في رأسه وداخل أذنيه وأنفه حين رن اسم الرفيق رقم واحد، فهب كالريح ورفع الحقيبة عن الأرض ووقف مشدود القامة وبلع العلكة التي كانت في فمه.

تنفست سيغريد بارتياح، وبدا لها أن الكرة الأرضية التي توقفت عن الدوران قد عاودت سيرتها الأولى بمجرد أن نطقت بالاسم المقدس. حدثتْ نفسها "هنا الكرة الأرضية لا تدور إلا بأمر من بول بوت، إذا قال لها دوري دارت!".

وبما أنها قد ورطت نفسها في هذه المسألة، فقد طلبت في اليوم التالي مقابلة الأخ رقم واحد، فردوا عليها بأن تنتظر في الفندق إلى حين تصلهم التعليمات بشأنها.
مكثتْ ثمانية أيام محتجزة في الفندق تعاني من الحرارة الخانقة. أخبروها أن أجهزة التكييف محرمة لأنها بدعة رأسمالية منحطة.

وفي صباح اليوم التاسع اكتشفتْ أن الفندق الضخم قد تم إخلاؤه، وأنها أضحتْ النزيلة الوحيدة.
عند الظهيرة رأت من شرفتها التي تطل على نهر الميكونغ وصول موكب مسلح من حوالي عشرين سيارة "رينج روفر" أحدث موديل.
رن هاتف الغرفة وطلبت منها امرأة إنكليزيتها ركيكة أن تهبط فوراً إلى بهو الفندق.
على عجل حشتْ شنطتها النسائية بالمسجلة وأشرطة الكاسيت ولفة أوراق وعلبة أقلام وعلقتها على كتفها، خطفتْ الكاميرا ودلتها على صدرها وتأكدت من تجهيزها، شربت قدحين من الماء المثلج وخرجت.

أخذ المصعد يهوي إلى الأسفل وأنفاسها تتسارع. تفقدت هندامها في مرآة المصعد المشروخة، وسوّت خصلات شعرها الكثيف، زررتْ فتحة قميصها لتمنع ذوي العيون الضيقة من التلصص على نهديها.

اقشعر بدنها حين انفتح باب المصعد ورأت الأخ رقم واحد واقفاً أمامها بوجه صارم يليق بصخرة. كان يرتدي بدلة سوداء أنيقة – بدلة ماو الشيوعية- وتحيط به هالة غريبة تترك أثراً فورياً فيمن يقابله، هي مزيج من الرهبة والإعجاب.

تقدمتْ نحوه وصافحته مُعرفة بنفسها والغرض من مجيئها. لم يُفلت يدها وأنصت باهتمام للمترجم. حين أنهتْ كلامها سحبت كفها بلطف وصمتتْ.
افترَّ ثغره عن ابتسامة تدريجية فظهرتْ أسنانه المتراصة بانتظام كحرس شرف. لاحظتْ أن تعبيرات وجهه متناقضة، جبينه متغضن عدائي وفمه يعرض أوسع ابتسامة رأتها في حياتها. فكرتْ أن الذكور هكذا يبتسمون في آسيا!

حل صمت محرج، فعاودت الحديث عن الصحيفة التي تعمل لديها وأهميتها وكيف أن الملك النرويجي يقرؤها كل صباح مع فنجان القهوة الخ. ظل يحملق فيها مبهوراً بجمالها ولم يراع آداب الحديث. بغتة وهي في منتصف جملتها دنا منها ومرر كفيه على شعرها الناعم الغزير ثم تحسس أذنيها شفتيها عنقها كتفيها نزولاً حتى أصابع رجليها، وكأنه يتأكد أنها مخلوقة بشرية وليست ملاكاً هبط من السماء. نطق أخيراً وهو يكاد يلتصق بها: "تحوزين ذلك الجمال الإسكندنافي الأسطوري الذي يخلب ألباب الرجال السمر المولودين تحت خط الاستواء".
أنصتتْ سيغريد إلى المترجم واكتفتْ بضحكة مجاملة مبتسرة وأدركتْ أنها ستواجه اختباراً عسيراً.

شبك ذراعه بذراعها واصطحبها في جولة على ردهات الفندق ومرافقه، قال لها إنه لم يسبق لمهندس التجربة الثورية أن عمل كدليل سياحي لأحد باستثنائها. ردت بدبلوماسية إنه يمنحها بهذا شرفاً عظيماً.

سألها وهو ينظف منخره بخنصره وهي لازمة لا إرادية لم يتمكن من الخلاص منها: "ما رأيكِ في ديكورات الفندق؟". وقبل أن تفتح فمها سارع بالقول مزهواً: "أنا من صممها". ردت سيغريد بتحفظ: "جميلة".

هرع بول بوت رغم عاهة العرج التي يعاني منها وهو يسحبها خلفه من يدها إلى لوحة مغطاة: "عندي لكِ مفاجأة". شعرت سيغريد بالتوتر. تابع وهو يُضيق عينيه: "أزيحي الستارة". استجابتْ سيغريد وبالفعل صعقتها المفاجأة حتى أنها فغرت فاها وكادت عيناها تخرجان من محجريهما.

ندمت لأنها أساءت التقدير حين ظنت أن كمبوديا دولة شيوعية متخلفة لا تملك الإمكانيات لزرع كاميرات مراقبة في غرف النوم بالفنادق، فاللوحة التي رُسمتْ بالألوان الزيتية لم تكن سوى بورتريه شخصي لها وهي تضطجع عارية على السرير. فكرتْ أن حرمان الغرف من التكييف لم تكن سوى حيلة وضيعة لإجبار النزلاء على التعري!

راح الأخ رقم واحد يحملق فيها بشهوانية ويقوم بحركة غريبة. كان يمط شفته السفلى فتبرز متقوسة للأمام ويظل يمط ويمط وكأنه يدفع زورقاً حربياً في اتجاه محدثه.
التصق بها من الجانب وأمال رأسه على كتفها: "سأفشي لكِ سراً.. أنا من رسم هذه اللوحة.. ما رأيك في موهبتي؟".

انتبهتْ الصحافية النرويجية إلى أنه بينما كانت اليد اليمنى لبول بوت تشير إلى اللوحة كانت اليد اليسرى تنزلق بخفة تحت لباسها الداخلي وتتحسس حمامتي السلام أسفل ظهرها.
لم تشعر بالإثارة بل بالاشمئزاز من أصابعه البالغة الطراوة وكأنها مجسات حيوان بحري رخو يلتصق بجلدها ليسكب إفرازاته.

أخرستْ الصدمة سيغريد فلم ترد. تابع متجاهلاً جفولها: "أنا أصلاً رسام، ولكنني اضطررتُ إلى التضحية بموهبتي من أجل الثورة".

تخلصتْ منه بلباقة متحججة بأنها تريد التقاط صورة للوحة. رفض السماح لها بالتصوير، وقال إنه سيأمر بتعليقها في غرفة نومه لكي ينظر إليها عندما يُجامع خليلاته ثم انفجر يضحك وجاراه المترجم الذي لم يُشرك سيغريد معهما في تلك الطرفة السمجة.

صحبها الأخ رقم واحد إلى حوض السباحة، وقعدا على كرسيين مصنوعين من الخيزران تحت مظلة من القش، ووقف المترجم المنحوس تحت أشعة الشمس خافضاً بصره ورأسه. أشفقت سيغريد عليه ولكنها لم تجرؤ على فعل شيء من أجله.

خلع بول بوت ثيابه باستثناء سرواله الداخلي وألقى بنفسه في الماء، عرض عليها أن تشاركه السباحة فرفضت رغم إلحاحه.

آخذاً راحته راح يلهو ويشدو بصوتٍ عالٍ ثم في نهاية الترنيمة كان ينفجر مقهقهاً وكأنه بشخصيتين، الأولى تلقي النكات والأخرى تستلقي على قفاها من شدة الضحك!
ارتابت إذ سمعته يردد اسمها، فأشارتْ للمترجم أن يدنو منها ويترجم لها ما يقوله رئيس الوزراء، تلعثم المترجم الخجول، قال وهو يحك أذنه: "الفاتنة سيغريد أجمل زنبقة في النرويج". قالت عابسة: "ولكنني لم أسمعه ينطق اسم النرويج؟". اربدّ وجه المترجم ولزم الصمت.

أقبل جندي المراسلة وهو يحمل لها "مايوه" أصفر فاضح. غمزها القائد بعينه، فرسمتْ على وجهها ابتسامة مفتعلة وأومأت برأسها أنها لن تتزحزح عن موقفها أبدا.
أصدر أمراً لجندي المراسلة فوضع المايوه على ذراع كرسيها ثم انصرف. ناجتْ نفسها "يا له من رجل ثقيل الدم، لا يطاق، لا يطاق حتى دقيقة واحدة، فليكن الرب في عون الشعب الكمبودي".

خفية ضغطتْ على زر التسجيل وغامرت بتوثيق دندنة رجل كمبوديا القوي.
بعد نصف ساعة صعد مهندس التجربة الثورية من المسبح مشعاً بالسعادة، وعاد ليقعد بجوار سيغريد الدائخة من الحرارة.
أتى غلمان يرتدون البزات الماوية السوداء بطعام الغداء، وصدحت الإذاعة الداخلية للفندق بالأغاني الوطنية.

أكلتْ سيغريد لقيمات من طبق كروونج –مزيج من الأعشاب والتوابل- فلم تستسغ طعمه، وشربت عصير برتقال فيه نكهة مرة.
بعد أن شبع وتجشأ أعطى إشارة فأتت صبية مشدودة العضلات لوحتها الشمس وهي تحمل طقم ملابسه. نهض مُسلماً نفسه للرفيقة المراهقة التي بادرت بخلع سرواله الداخلي وراحت تُلبسه مثل ولد في الثالثة.

ارتبكتْ سيغريد حين رأت مسدسه مصوباً نحوها وأشاحت بوجهها. رُفع الطعام، وظهر بول بوت بالزي الشعبي المريح: إزار أبيض مُقلم، وقميص أسود، ووشاح كراما على عاتقه الأيسر.
حدثت سيغريد نفسها بأنه بدا مختلفاً كلياً، بل وحتى يمكن اعتباره إنساناً بسيطاً وطيباً!
قال مهندس التجربة الثورية: "سأكشف لكِ سراً، لقد وضعتُ سحر محبة في كأسك".
بدأت معدة سيغريد تقرقر بمجرد سماعها ذلك النبأ السيئ. علقتْ منزعجة: "آمل فقط أن تكون قواعد النظافة قد رُوعيت وألا أتعرض للتسمم".

سألها مهندس التجربة الثورية مازحا: "والآن.. هل تشعرين بدبيب محبتي في قلبك؟".
ردت وفمها ممتعض: "كلا.. أشعر بمغص في بطني!". ضحك بول بوت وربَّت على خدها.
أتى جندي المراسلة بجريدة، أخذها بول بوت وانشغل بتصفحها. اشرأبت سيغريد بعنقها وتيقنت أنها نسخة من العدد الصادر صباح اليوم من الجريدة النرويجية التي تعمل لصالحها.
بحركة مسرحية قذف بول بوت بورق أوسلو الفاخر إلى المسبح متأففاً وتكلم بفرنسية جيدة ومفخمة: "إعلانات إعلانات إعلانات.. إنها جريدة إمبريالية مبتذلة".

تفاجأت سيغريد ثم تذكرت أنه درس في فرنسا. اقترحت إجراء الحوار بالفرنسية، فوافق وأعطى إشارة للمترجم فانصرف.
أخرجت سيغريد المسجلة وأظهرتْ تأهبها للبدء بالعمل. اشترط مهندس التجربة الثورية بوضوح أن يضاجعها أولاً ثم يعطيها الحوار الذي تريد.

بعد مفاوضات شاقة وصراع إرادات استمر أكثر من ساعة، وافق رئيس الوزراء الصعب المراس على إجراء الحوار أولاً ثم الانتقال إلى السرير. لكنه اشترط أيضاً مقابل تنازله أن تسجل الحوار على الورق، وأن تعمل وهي ترتدي المايوه الأصفر.
دست سيغريد المسجلة في شنطتها، وخلعت بسرعة ثيابها معطية ظهرها لبول بوت وارتدت المايوه المهدى منه.

فتح الأخ رقم واحد فمه على آخره وأحس برغبة حقيقية في أكلها.
قعدت واضعة رجلاً على رجل، وسألته وشعرها الذهبي تتلاعب به الرياح:
- هل يمكن أن تروي لنا كيف كانت طفولتك؟
شخر بول بوت مبدياً حنقه من التطفل على طفولته:
- خااا! أنتِ لا تعرفين من هو بول بوت.. لقد ولدتُ رجلاً ولم تكن لي طفولة على الإطلاق.
تجعد طرف فم سيغريد، وبعد تلكؤ دونت إجابته كما هي.
- تُسمي نفسك قائد التجربة الثورية، ماذا تقصد بالتجربة الثورية؟
تنهد بول بوت وظهر عليه بوضوح أن سحر المحبة الذي أعده الساحر (هونج) قد ذاب في كأسه لا كأس سيغريد:
- العالم هو الذي يسميني قائد التجربة الثورية ولست أنا، هذا أولاً، ثانياً، التجربة تهدف إلى بناء مجتمع شيوعي خالص.. لقد ألغتْ المنظمة التعامل بالنقود، وقمنا بنقل مليوني شخص من سكان المدن إلى الريف للعمل في زراعة الأرض.. إن مجتمعنا اليوم يتكون من الفلاحين لا غير.. لقد نظفنا كمبوتشيا الديمقراطية من المثقفين الذين يستنكفون العمل في الحقول من الصباح وحتى غروب الشمس.. إنهم يموتون كالذباب لعدم تعودهم على أن يعملوا عملاً حقيقياً.. ستتحللُ جثثهم لتصير سماداً نافعاً للأرض الكمبوتشية الطاهرة.. لقد ألغت المنظمة التعليم البرجوازي وقامت بتحويل المدارس والجامعات إلى حظائر لتربية الحيوانات النافعة كالخنازير والأبقار والدجاج.

طرحت سيغريد سؤالها وهي تلوح بنظارتها الطبية:
- أنا أستخدم هذه النظارة مضطرة لأنني أعاني من قصر النظر وبدونها أصبح عمياء.. هل صحيح أن المنظمة تقوم بإعدام الكمبوتشيين الذين يرتدون النظارات؟
أعاد بول بوت تثبيت النظارة على عيني سيغريد برقة فاجأتها:
- لقد ضعف بصرك بسبب القراءة أليس كذلك؟ لذلك أنتِ مثقفة! في كمبوتشيا الديمقراطية نحن ننظر إلى المثقفين بوصفهم عناصر تخريبية للمجتمع.. إنهم ثمار عفنة للإمبريالية، وهم في داخلهم يحقدون على الفلاح الكمبوتشي الريفي البسيط ويزدرونه. نحن نستدل عليهم بواسطة النظارات. ولذلك أصدرتْ المنظمة قراراً بإعدام كل من يرتدي النظارات في كمبوتشيا الديمقراطية.

ضحكتْ سيغريد ساخرة:
- هل هذا يعني أنني معرضة لخطر الإعدام أنا أيضاً يا معالي رئيس الوزراء؟!
جاراها بول بوت بضحكة مقلداً ضحكتها الساخرة ثم عبس وجهه فجأة:
- هل هذه نكتة على الطريقة النروجية؟! عموماً لقد لاحظتْ المنظمة أن النساء الكمبوتشيات اللاتي يرتدين النظارات فقدن براءتهن وإيمانهن بفحولة الرجل الكمبوتشي، وصرن يلهثن وراء الرجال الأجانب.. الثقافة خرَّبتْ عقولهن فأضحت الواحدة منهن تلهثُ وراء الرجل الأجنبي وتعرض نفسها عليه لعل وعسى يتنازل عن كبريائه ويقبل بمضاجعتها! وأما ابن البلد فهي تتأفف من مضاجعته. لكن اذهبي إلى الريف.. ستجدي المرأة الكمبوتشية على فطرتها، وستخبرك بكل فخر أن رجلها الكمبوتشي هو سيد رجال الأرض وأنها لا ترضى عنه بديلا.
تلبد الجو بالغيوم وبدا أنها ستمطر. شعرتْ سيغريد بالتشوش رغم أنها قد أعدت الأسئلة جيداً. أحست بسحر شخصية بول بوت يضغط على أعصابها ويوترها:
- هل صحيح أنك حظرت الأديان في كمبوتشيا؟ أليس الإنسان حراً في اعتناق العقيدة التي يريدها؟
تحفز بول بوت في جلسته وتحمس وقد لاحظ أنه قد بدأ يؤثر فيها:
- لست أنا من حظرها بل المنظمة، هذا أولاً، ثانياً الأديان هي أكبر مستعبد للإنسان منذ فجر التاريخ. ونحن عندما نحرر الإنسان الكمبوتشي من الدين فإننا نكون بهذا قد منحناه حرية حقيقية.. وهو نفسه سيشكرنا على هذا الأمر في ما بعد.
- المعابد والكنائس والمساجد تم إغلاقها؟

- نحن لم نغلقها، نحن قمنا بتحويلها إلى مؤسسات إنتاجية نافعة للمجتمع.. بشرفك يا سيغريد أليس الأفضل أن نستفيد بالبيض من المعابد بدلاً من تركها خاوية لا يستفيد منها سوى الرب؟!
- هناك شائعات بأن المواطنين الكمبوتشيين يعانون من سوء التغذية؟
- هذه ليست شائعات بل حقيقة لا أخجل منها، هذا أولاً، ثانياً نحن الآن في طريق التحول إلى مجتمع زراعي مكتف ذاتياً، يأكل مما يزرع فقط، فنحن لا نسمح باستيراد أيّ شيء على الإطلاق. وهذا التحول من المجتمع العالة على الشعوب الأخرى إلى المجتمع المنتج الذي يأكل من حصاد يديه يتطلب تضحيات جسيمة وقوة تحمل عظيمة.
نزلت قطرات مطر خفيفة، تبدأ للحظات ثم تتوقف، وكأنها دموع لم تجد من يمسحها فسقطتْ على الأرض.

- ولكن الناس يموتون جوعاً.. ألا تشعرون بتأنيب الضمير؟
انعقد حاجبا بول بوت وارتفع صوته فاضحاً تسلطه وصلفه:
- لا يعجبني استخدام الغرب لهذه الألاعيب اللفظية من نحو الحرية.. الليبرالية.. هذه خزعبلات فلسفية! إن دولة كمبوتشيا الديمقراطية لن تركع للغرب.. سنقاوم القمح الأمريكي الملوث بالابتزاز ولو متنا جوعاً.
- بمناسبة ذكر الحرية، ما هي الحرية من وجهة نظرك؟
- الحرية هي عاهرة رخيصة مصابة بالسفلس والغرب يريد إجبار الشعوب الفقيرة على ممارسة الجنس معها لكي تصاب بالمرض فتنحط قواها وتعجز عن إبداء أية مقاومة لمشروعها الإمبريالي الحقير.
- ماذا حققت أنت لكمبوتشيا؟
- يكفي أنني خلصتها من ألفي عام من اليأس.
- ما الذي تأمل أن تحققه أيضاً بخلاف تخليص بلادك من اليأس؟
جفف عرقه بوشاح كراما، وأخذ برهة للتفكير قبل أن يجيب:
- أنا أريد أن تعمم التجربة الثورية الناجحة لكمبوتشيا على جميع دول العالم.
انتفض بدنها لا إرادياً حين رأت جرذاً يعبر الحديقة، تعرف أن الخوف من الجرذان شيء سخيف، ولكنها تحتاج إلى ثانية واحدة ليرسل لها عقلها إشارة طمأنة فتسترد رباطة جأشها. تابعت طرح أسئلتها:
- أنت تطمح لقيادة ثورة عالمية؟

- أنا أطمح لتخليص فقراء الأرض من اليأس.. أنا أفضل من الأنبياء.. ماذا فعل الأنبياء سوى جلب المزيد من اليأس إلى العالم؟! أنا سأحرر العالم من اليأس الذي تسببتْ به الأديان وطفلتها المعاقة أخلاقياً المسماة الرأسمالية. 
ارتسمت ابتسامة تهكم على شفتي سيغريد:
- إن طموحاتك كبيرة جداً، ولكنها لا تتناسب مع حجم بلدك الصغير وموارده المتواضعة؟!
استبد السخط ببول بوت ووضع أصابعه تحت حنكها وأخذ يربت عليه بعصبية:
- كمبوتشيا في عهدي ستصبح دولة عظمى وستصدر التجربة الثورية إلى كل مكان في العالم.
أرادتْ أن تطرح المزيد من الأسئلة، ولكنه أخرسها بإشارة حازمة. طقطق بإصبعيه فهرول صبي المراسلة صوبه، تكلم معه باللغة الخميرية وهو يرتجف من الغضب.
شعرت سيغريد بالرضا عن نفسها، لقد نالت منه وأخرجته عن طوره! طوت أوراقها ودستها في حقيبتها.

قدموا للأخ رقم واحد الشاي والحلويات وأهملوها تماماً. كانت هذه إهانة مقصودة.
بعد دقائق حضر رجل أعور فقد عينه في انفجار لغم، يرتدي الزي الماوي الأسود، أدى التحية ووقف في وضع الاستعداد. 
التفت إليه بول بوت بعد تجاهل طويل:
- هذا الأخ خيو أفضل قارئ كف في كمبوتشيا.. سوف يقرأ لكِ كفكِ إذا لم يكن لديكِ مانع.
أعطتْ سيغريد كفها الأيمن لقارئ الكف، ولكن بول بوت تكلم معه بالخميرية وحرك يده كمن يكتب، ترك قارئ الكف كفها اليمين والتقط كفها الشمال. لقد نبهه إلى أنها عسراء.
راح يتمعن في خطوط كفها ويتكلم مع سيده المنصت باهتمام بالغ. لم تكن سيغريد تؤمن بهذه الخرافات، فلم تلق بالاً لقارئ الكف الذي كان يتصبب عرقاً ويبدو وجهه مصفراً من الرعب.
رفعتْ رأسها وأبصرت سرباً من الغربان قد اصطف على حواف سطح الفندق فانقبض قلبها.
فجأة تهلل وجه بول بوت بالسرور، وعلق على كلام خيو الأعور، تكلما وهما يشعران بالإثارة.. دنا بول بوت وعاين بنفسه النجمة الخماسية الواقعة بين خطي العقل والقلب، فضحك منتشياً!

انتاب سيغريد الفضول لتعرف ما الذي عثرا عليه في كفها وماذا يعني، ولكن ظلاً من الشك راودها، وقالت في نفسها إن بول بوت يريد خداعها بهذا العرض المسرحي السخيف.. ولكن إلى ماذا يرمي؟

انصرف خيو الأعور مبتهجاً بعد أن ربت الأخ رقم واحد على كتفه ووعده بشيء ما.
بعدها أخذها بول بوت إلى السرير وقضى معها ست ساعات. قبَّل كل سنتيمتر في جسدها، وبدا لها وكأنه لم يعرف امرأة قبلها قط، فتذكرتْ مقته للمرأة الكمبودية التي تُفضل الأجانب على أبناء البلد، ورأتْ أنه نسي أن يُضيف الذكور أيضاً!
عندما نزلا إلى مطعم الفندق لتناول العشاء، وجدت مائدة لا تصدق في انتظارها: طبق كاتيو الفاخر المكون من لحم الخنزير مع شوربة شعيرية الأرز المقلية بالثوم والبصل الأخضر، وطبق أموك المميز بشرائح السمك المطبوخ بالكاري مع البطاطا والعناكب ويقدم في أوراق الموز، وأصناف لا حصر لها من المشويات.

حين لاحظ استغرابها من البذخ المفاجئ الذي لا يليق بدولة شيوعية على شفا المجاعة، علل محرجاً بأنه يرغب في تعريفها على المطبخ الكمبوتشي ومأكولاته الشهية المذاق.  
طيلة العشاء الذي امتد لساعتين ظل يحدثها عن تاريخه النضالي ومآثره البطولية، وكيف أنه مرة ألقى بنفسه في مياه بحيرة تونلي ساب لينقذ كلباً كاد يغرق، وعن حبه الشديد للطيور وأنه أمر بمنع حبسها في الأقفاص.. وأنه أصدر أوامره للعناية بالقطط المتشردة.. لم يتحدث أبداً عن أنه أنقذ إنساناً!
كانت بالكاد تصغي إليه، إذ بعد التجويع الطويل الذي تعرضت له منذ وصولها إلى بنوم بنه بسبب نظام الحصص الغذائية الفقير الرديء الطعم فإنها قد أكلت بنهم شديد.
في اليوم التالي وهي تتأهب للسفر، داهم عناصر من المخابرات غرفتها، وصادروا جواز سفرها وجهاز التسجيل والكاميرا وكل أوراقها.. حدث هذا في منتصف الظهيرة.
بعد حلول الظلام سمعت طرقاً خشناً على باب غرفتها، فتحت الباب ورأت فصيلاً مسلحاً يرتدون بزات ماوية سوداء وملامحهم بالغة التهجم ومخيفة. تلا أكبرهم سناً اتهاماً بالخميرية لم تفهم فحواه، ثم وضعوا الأغلال في معصميها واقتادوها معصوبة العينين إلى تول سلينغ أكثر السجون رعباً في العالم.
وضعتْ في زنزانة انفرادية، ولم تكن تقدر على النوم في الليل بسبب صراخ المعذبين ونحيبهم، وفي النهار كانت تستيقظ مفزوعة كلما سمعتْ دوي الرصاص، فتنهمر دموعها متخيلة أن الدور سيحل عليها قريباً لإعدامها.
قدَّرتْ أنها مكثتْ في الجحيم قرابة العشرين يوماً، إلى أن ظهر بول بوت فجأة في زنزانتها النتنة التي ينتشر العفن الأخضر على جدرانها، وجعلها تنصتُ إلى التسجيل الذي سجلته له خفية وهو يدندن بكلمات غزل فاحشة يخجل حتى الشيطان من التفوه بها. قال لها إن ما قامت به يعد عملاً غير أخلاقي وعدائي، وأن المنظمة تتهمها بالتجسس على مهندس التجربة الثورية وقد أصدرت بحقها حكماً بالإعدام. 
انتظر بول بوت طويلاً ردة فعلها.. أن تركع عند قدميه متوسلة العفو، أو أن تنفجر باكية ليشفق عليها فيجد فرصته ليظهر بمظهر الإنسان الرحيم الطيب.
لكنها أظهرتْ صلابة غير متوقعة، ظلت صامتة ونظرتها ثابتة على الحائط الملوث بلطخات البراز ووجهها ينضح بالازدراء والمقت.
حين لم يتمكن بول بوت بكل جبروته من كسر إرادتها وحملها على الكلام معه، أحس بالمهانة وكاد يصدر أمراً فورياً بإعدامها.. تمشى في زنزانتها جيئة وذهاباً ويداه معقودتان خلف ظهره مُقلِّباً الأفكار في ذهنه، وشيئاً فشيئاً اعتراه الندم إلى أن فاضت مشاعره فأطلق زفرة طويلة متقطعة كأنما انسكبتْ من روافد عكرة، احتواها بنظرة أخيرة ثم غادر منكس الرأس.
بعد ساعات فُتح باب زنزانتها، توقعتْ أن ساعة إعدامها قد حانتْ، لكنهم نقلوها معصوبة العينين – دون أغلال في رسغيها- إلى فيلا واسعة تقع في إحدى ضواحي بنوم بنه وتحت حراسة مشددة.

حين رُفعت الخرقة عن عينيها رأت الأخ رقم واحد واقفاً أمامها بزيه الماوي الأسود الذي يعطيه هيئة كاهن متحمس للدين الشيوعي. أخبرها أنها ستبقى تحت الإقامة الجبرية إلى أن يتمكن من إقناع المنظمة بإصدار قرار بالعفو عنها.
سألها إن كانت تحتاج شيئاً وهو يتأهب لصعود سيارته، تكلمتْ أخيراً وطلبت جيتاراً.
تحرك موكبه ولوَّح لها بيده مودعاً، فشردت بنظرها بعيداً لكيلا ترد على تحيته.
في الأيام التالية حصلتْ على هدايا متنوعة: جيتار مصنوع في الصين، بن فاخر مستورد من عدن، ملابس تايلندية أنيقة، خمور بولندية معتقة، ومحاضرات ماو تسي تونغ مترجمة بالفرنسية، وحزمة كتب عن الاشتراكية الماوية والثورة الشيوعية الصينية. كذلك سلموا لها كافة متعلقاتها المصادرة باستثناء نقودها وجواز سفرها.
بعد مرور أربعين يوماً ظهر بول بوت مجدداً، وأخبرها أن المنظمة قد أصدرت قراراً  بالعفو عنها والسماح لها بمغادرة البلاد.. إلا أنه يأمل بعد أن أسدى لها هذا المعروف أن تقوم بمهمة صغيرة كخدمة إنسانية للشعب الكمبوتشي.
أصغتْ إليه سيغريد بانتباه ثم أعلنتْ موافقتها.. بعد دقائق استلمتْ جواز سفرها وتذاكر الطائرة والمبلغ المالي الذي صودر منها عند اعتقالها.
ناولها بول بوت الشفرة وطلب منها أن تحفظها في رأسها ثم تحرق الورقة قبل مغادرتها إلى المطار. سألته لماذا يثق أنها ستفعل؟ عانقها بول بوت وهمس في أذنها بكلمة لم تكن تتوقعها على الإطلاق.

فارقها وهو يتجنب أن ترى عينيه الدامعتين.
بعد سبعة أشهر نشرت صحيفة "نوريجر" النروجية حواراً مطولاً مع رئيس وزراء كمبوتشيا الديمقراطية بول بوت تتصدره صورة يظهر فيها مبتسماً كالأطفال التقطتها له سيغريد.
تأخر نشر الحوار كثيراً لأن السفير الأميركي في أوسلو استغرق وقتاً طويلاً حتى يحصل على جواب من واشنطن.
كانت الرسالة الشفوية غير الرسمية التي أوصلتها سيغريد للسفير الأميركي هي أن كمبوتشيا الديمقراطية على استعداد لشن حرب على جارتها فيتنام وإسقاط النظام هناك ولكن بشرط، أن تلتزم الولايات المتحدة الأميركية بدعم كمبوتشيا اقتصادياً وعسكرياً.
أشرق وجه بول بوت بالسعادة حين تصفح العدد الذي انتظره منذ شهور، وعثر في ثنايا الحوار على كلمة "أنغكور" وهي اسم مملكة كمبوتشية قديمة حققت درجة عالية من التطور والرخاء المادي.

فكر في نفسه أن هذا هو الحل الوحيد المتاح أمامه للهروب من مشاكله الداخلية التي تزداد تعقيداً بعد يوم وتهدد بفشل التجربة الثورية، وأنه محظوظ للغاية لأن الولايات المتحدة الأمريكية المترددة بشأن دعمه قد حسمت موقفها أخيراً لصالحه.

وبعد ساعات لا أكثر، قامت قوات كمبوتشيا الديمقراطية بغزو فيتنام وتوغلت في أراضيها، وحقق جيش الخمير الحمر انتصارات سريعة متلاحقة.
لكن الفيتناميين بعد أن امتصوا صدمة الهجوم العسكري المباغت، قاموا بشن هجوم معاكس، وتمكن جيشهم المدرب الذي خاض حرباً مع جيش الولايات المتحدة وخرج منها منتصراً أن يُلحق هزيمة ساحقة بالخمير الحمر، وتمكن من احتلال العاصمة بنوم بنه، ونصَّب حكومة شيوعية عميلة له، وانسحب بول بوت بمن بقي معه من الخمير الحمر إلى الأدغال في شمال شرق البلاد.

في يناير 1979 عادت الصحافية سيغريد إلى بنوم بنه ولم يكن أحد يعلم ما الذي تخطط له. آخر مرة شوهدت فيها كانت وهي برفقة خيو الأعور – قارئ الكف- وبعد ذلك انقطعت أخبارها، ولم يعلم أحد مصيرها حتى اللحظة. 
* كاتب يمني.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها