الجمعة 2018/10/05

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

"يوميات الملل الثوري" لهاني درويش: المثقف والهامش والجماهير

الجمعة 2018/10/05
"يوميات الملل الثوري" لهاني درويش: المثقف والهامش والجماهير
"لا أستحي من الحديث إليكم بضمير الجمع"
increase حجم الخط decrease
"ما أقسى أن تحيا عمرك على الهامش، ثم يتسع الهامش ليصبح دائرة متواطئة. فليكن هامش الهامش هو الحل، كانت الثورة فخاً كبيراً، تم استجلاب قطاع ضيق من الجماهير لمَواطن النخبة، وحولهم مريدون. والجماهير في مكان آخر منقسمون حول النوايا البراغماتية".

بعد كتاب "إني أتقادم - مسارات شخصية في أحراش القاهرة" (2014)، أصدرت دار الكتب خان، حديثاً، الكتاب الثاني الذي جمعت فيه مقالات الكاتب الراحل هاني درويش، تحت عنوان "يوميات الملل الثوري" (2018). وعلى غير ما يوحي عنوان الكتاب، فإن مقالاته ليست بالضرورة يوميات للثورة أو عنها، "فأكثر ما يفزع أن تتحول الثورة إلى يوميات"، أما الكاتب نفسه فكان قد اكتفى من الثورة مبكراً، فـ"الحقيقة أن قليلاً من الثورة يكفي، تكفي الرمزية، أو على الأقل مجازاتها".

وكذلك فإن نصوص هاني التي يضمها الكتاب ليست معنية بالملل، فمع إن "الملل يبدو وحده هو الدافع الحقيقي، للكتابة"، فإنه لا يضحي موضوعاً أو هدفاً لذاته. فالثورة تبدو مثل لعبة "وكأننا أصلحنا الكون أو دمرناه، لنلعب على خرائبه لعبة "لاعبيني وألاعبك...لأكسر صوابعك"، إلا أنها ليست لعبة لتمرير الوقت وقتل الملل. فعبر خيط مستمر يربط نصوص هاني، التي ربما لم يظن هو نفسه أنها ستجمع في كتاب، تضعنا تلك النصوص أمام إحدى معضلات الثورة الحقيقية، والتي أدركها الكاتب باكراً جداً، أي الثورة بوصفها فخاً. وكتب عن واحد من أسئلة كثيرة طرحتها الثورة، عن المثقف وموقعه من الجماهير، وعن النخبة وهامشها الذي انهارت حدوده فجأة.

أيام الشهد والدموع
في القسم الأول من الكتاب، بعنوان "اليوميات"، يؤرخ هاني لـ"أيام الشهد والدموع"، كاتباً عن "المشاهد التي تنفك في استطالات لا يستوعبها زمن الكتابة ولا زمن التأمل... وتحتاج حياة كاملة للإحاطة بها". يعدنا بأنه سيوقف "مواقيت البلاغة، وعند الحدود الأدنى من حمولات اللغة سأتحدث". لكن الكاتب لا يفي بوعده، وهو يكتب عن الثورة التي ساهم في ميادينها، ومعاركها، بغية مقابل بسيط "الصمود كحجر". ويندم على تجاوزه هذا لاحقاً: "أنا هاني درويش، أقرّ وأعترف أننا ساهمنا في صنع أسطورة اسمها الخيال السامي لوقائع ركيكة، وأننا سندفع أثماناً مضاعفة لتجسير الهوة بين الإقامتين". يكتب هاني ذلك في نهاية فبراير 2012، مستشرفاً مآلات الثورة، والأثمان القاسية التي ستدفع. ووسط هذا كله، يلتقط اللحظة الأهم، التي فيها "تهاوى الشك التاريخي في مناضلي الافتراض" مع أطلال عشرات الآلاف من البشر العاديين، ويلخصها في "لقطة مؤثرة حيث ظهر أحد قيادات اليسار تائهاً حرفياً في طوفان المظاهرة. كان يحملق غير مصدق نفسه، أن يسير هكذا في قلب وسط العاصمة بعدما سخر طويلاً من الجماهير".

تيارات
تسجيل لحظات التيه وعدم التصديق تلك، والتي صدمت النخب الثقافية في لحظة وقوفها أمام حشود الجماهير للمرة الأولى، يمهد للقسم الثاني من الكتاب، وقلبه المعنون "تيارات". يشرح هاني، في سلسلة من المقالات، التكتلات السياسية المصرية من أقصى اليسار إلى اليمين الإسلامي، ومواقفها قبل الثورة وخلالها، وخصوصاً في ذروة الخلافات الحامية حول التصويت في الانتخابات الرئاسية 2012. إلا إن ذلك المخطط المكثف لا يبدو معنياً بطرح مانفيستو سياسي، وإن كان ثرياً في تفاصليه الثاقبة والرؤيوية، والتي أثبت الزمن دقّتها لاحقاً. ولا يبدو أن هاني كان يسعى إلى إنصاف تيار بعينه، أو إدانة آخر، أو الدفاع عن موقف سياسي اتخذه البعض، وإثبات صحته، بل إن دفاعه كان منصباً على المثقف "الفردي" و"النخبوي". 
فلعبة "تنخيب الأعداء"، أو وصم الخصوم بالنخبوية، هي ما تقف ضده نصوص الكتاب، أي فك الحصار الذي هيمن على الجدل السياسي بعد الثورة، وحبس الجميع في "سجن المصلحة البراغماتية". يدافع هاني عن موقعه كواحد من "مثقفي المقاهي"، من أنصار "الفردية الجديدة" لجيل التسعينات الذي لا يعول "لا على جماهير ولا نخب"، في مقابل "هواة الفنفنة الطبقية... الذين يتحدثون عن جماهير لا يعرفون الوصول إليها"، وكذلك بعيداً من "الجناح "المعملي الفذ الذي يتعامل مع السياسة كمجال اختبارات أقرب إلى لعبة النرد".

يكتب هاني في إحدى مقالات الكتاب: "لا أستحي من الحديث إليكم بضمير الجمع"، ليطرح المعضلة السابقة على الثورة، والباقية بعدها والمتجاوزة للسياسة، وهي: كيف للفرد أن يظل فرداً وهو منخرط في العام؟ وكيف للمثقف ألا تصيبه لوثة الجماهير، وغواية التحدث باسمها، وفي الوقت ذاته أن يظل ملتحماً بها وطليعة لحراكها؟ 

لا تقودنا نصوص الكتاب المُحكَمة، إلى عدمية نخبوية، أو فردانية بنكهة تنويرية متعالية. بل على العكس، تطرح مشروعاً عملياً إلى أقصى حد، وملتزماً أخلاقياً. ينتصر هاني لقيَم "ضميرية في مجملها" و"للمبدئي أكثر من التكتيكي"، رافضاً اللحاق "بقطار الواقعية الجديد". ويؤسس موقفه وموقف أمثاله، الرافض للتماهي مع النزعة الجماهيرية أو الأكاديمية، على أرض شديدة الصلابة "احتراماً وتواضعاً أمام حجمنا الحقيقي النخبوي بامتياز، حجمنا المبدئي البسيط المتسق مع ذاته".

مدن وعسكر
في الجزء الثالث والأخير من الكتاب، والمعنون "مدن وعسكر"، ينسحب هاني بعيداً من "أزمات التعليب النظري"، متجاوزاً "سلطة التلخيصات الصحافية"، إلى أفق موضوعه الأثير، الجغرافيا وأمكنتها، متنقلاً بين صحراء طريق القاهرة إلى العين السخنة، ونجع حمادي في صعيد مصر، ومنها إلى سيناء، وبيروت. وتظل الثورة سياقاً وخلفية ومجازاً، في تلك الأماكن كلها وبينها، والتي يتفحصها هو بعين تنتصر في شجاعة "للتشرب البطيء لتأمل وكتابة وهدم الحياة الواقعية من دون رادع إيديولوجي ومن دون غواية، إلا اللعب". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها