الخميس 2018/10/04

آخر تحديث: 11:49 (بيروت)

رحل سلامة كيله.. وشحّت عقولنا النقدية

الخميس 2018/10/04
رحل سلامة كيله.. وشحّت عقولنا النقدية
عاش كيله ومات يساريًا
increase حجم الخط decrease
في زمن قريب، كان يمكن لعدد السنوات التي قضاها سلامة كيله، مسجونًا سياسيًا، أن يصدمني. المفكر اليساري، الفلسطيني السوري، ليس وحده الذي تعرّض لذلك، هذا مؤكد، غير أني لا أتصوره حدث لكثيرين ممن نعرفهم في الأجيال السابقة. ثماني سنوات، من 1992 إلى 2000، ليس رقمًا هينًا. غير أننا نعيش زمناً، باتت فيه أرقام كهذه قريبة من الانتشار بين مساجين الرأي السياسي.

هذه السنوات الكثيرة كانت اعتقاله الأول، تنقّل خلالها داخل سجون سورية عُرفت عن بعضها وفرة القسوة. خرج منها يقاوم السرطان، واستطاع الانتصار عليه انتصارًا مؤقتًا، قبل أن يعاوده مرة أخرى بشراسة، متزامنًا مع سجن سوري جديد في العام 2012، ومستوى من التعذيب لعل أبلغ تعبير عنها، صور نشرها أصدقاؤه في "فايسبوك" لأنحاء جسده الستيني الذي شوهته جروح وعلامات غائرة.

بصراحة، ورغم ملامحه المميزة، كثيرًا ما رأيت سلامة كيله في شوارع وسط القاهرة ومقاهيه، من دون أن أربط بين الشكل والاسم. لذا، فوجئت بصوره الفوتوغرافية، عندما انتشرت بكثافة وخلال دقائق، مصحوبة بخبر الرحيل، أينما ذهبت العين داخل الموقع الأزرق. غير أن الدهشة الأكبر، كانت بسبب مساحة القُرب الشخصي التي وجدتها في منشورات عدد كبير من أصدقاء شباب، تفصلهم عن الراحل سنوات كثيرة في العمر.

في اتصال هاتفي مع الصديق والكاتب المصري وائل جمال، وهو أحد القريبين من الراحل، أرجَع هذه العلاقة اللافتة، بين كيله وشباب العمل العام، إلى كونه كان ودودًا متواضعًا. وفهمت كيف أن هذه الصداقات تكونت نتيجة سعي متبادل. ذلك أن الرجل، وعلى قيمته الفكرية والسياسية الكبيرة، لم يكن فقط يستجيب لالتفافهم حوله، بل كان بدوره يسعى إلى الشباب بإيمان كبير في أن هؤلاء الأصغر عمرًا يملكون المعلومة الحقيقية والإلهام.

عاش كيله ومات يساريًا، تأطرت قناعاته وأفكاره بغلاف يوحي بالمرونة، بينما يدعو داخله إلى راديكالية في التعامل مع ما فسد فوق طاولة اليسار: "لا بد من الفرز، فرز مُدَّعي اليسار عن اليسار الحقيقي. هذا ما يجب أن يكون مهمة اليوم. يكفي تجاهلاً، أو طبطبة، أو تداخلاً، أو علاقة... منذ سنوات كتبت: علينا أن ندفن موتانا، وأتت الثورات في البلاد العربية لتضع حجر الشاهد على قبر هذا اليسار الذي ما زال يمسك بتلابيب الحي. لهذا لا بدّ من القطع معه لكي يرقد بسلام... لا بدّ من الفرز بلا تردد، ولا تأخير، وبجرأة شديدة".

وبينما كان اندلاع الثورة السورية، تحديدًا وكما عبَّر كتابة، مفصلاً أساسياً لتوضيح وجهة نظره حول الموقف من الحركات اليسارية وآراء بعضها، فقد كان موقفه بالتوازي من الثورة نفسها خلافيًا. فهو من ناحية يقف، قلبًا وقالبًا، في قلب المعارضة الحادة لنظام الأسد، لكنه من ناحية أخرى لا يتعاطف مع التطور الذي آلت إليه المعارضة بعدما ابتعدت عن القاعدة الجماهيرية، بالأحرى الشعبية، وتحولت إلى طرف في معركة براغماتية بالأساس بين قوتين ليست بينهما القوة الشعبية. ربما هو نفسه المعنى الذي صاغته الشاعرة السورية المقيمة في القاهرة، رشا عمران، في سطر بسيط: "كان الأكثر جذرية في موقفه المؤيد للثورات العربية ضد الطغاة، وضد الإسلام السياسي الراديكالي في الوقت نفسه".

خرج كيله من سجنه، العام 2012، غير مسموح له بالإقامة في الأراضي السورية، واستقر في القاهرة سنوات أثار فيها الدهشة بقدرته على غزارة إنتاج لم يعطلها المرض والآثار الصعبة للتعذيب داخل السجن، لم يعطلها حتى كونه مثقفاً عضوياً يوفر وقتًا وجهدًا للمشاركة في ما يحدث خارج الغرف المغلقة وبعيدًا من المكاتب. ظل هكذا حتى شحّت الفعاليات، خوفًا من تبعات أمنية لا قبل لنا بها، إلى أن اضطر للذهاب، مؤخرًا، إلى عمّان للعلاج حيث تتوافر له إمكانية التأمين الصحي، قبل أن يريح رأسه مرة أخيرة في أحد مراكز علاج الأورام في العاصمة الأردنية، بينما تقول تقارير صحافية إن أسرته تسعى إلى إعادة جثمانه إلى فلسطين لدفنه في مدينة بيرزيت مسقط رأسه.

برحيل سلامة كيله قد تكتمل صورة سيئة كوّنتها السنوات الماضية، حينما تجلى غياب العقل النقدي في استجابة لإغلاق المجال العام على المستويات كافة، إلى جانب تجريف غير مسبوق للساحة الفكرية من الكفاءات داخل نخبة صارت بالونية.

واليوم، لأربع ساعات تبدأ في الخامسة مساءً، يتلقى أصدقاء سلامة كيله وحبوه، العزاء فيه، في أحد المساجد البسيطة في شارع صبري أبوعلم، الذي شهدت أرصفته، بتعبير الناشر محمد هاشم، بداية المواجهات "وتلقي الحصة الوطنية من غاز الداخلية يوم جمعة الغضب".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها