السبت 2018/10/27

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

"لسه عم تسجّل": حكاية جيل وكاميرا

السبت 2018/10/27
"لسه عم تسجّل": حكاية جيل وكاميرا
يبلغ الحياد ذروته مع إهداء الفيلم "إلى كل رفع الكاميرا في وجه كل صراع"
increase حجم الخط decrease
يقرر الفيلم الوثائقي السوري "لسّه عم تسجّل" أن يجعل من الكاميرا في ظل الحرب موضوعاً له، وهو نوع من البحث الشائك في موضوع السينما والفن في قلب الحرب. كأن همّه أن يكون درساً في السينما، أو أن يتناول السينما التسجيلية كواقعة من الوقائع الكثيرة المستجدة في البلاد بعد اندلاع الثورة فيها العام 2011.

يتابع الفيلم مغامرة شاب (سعيد البطل، وهو أحد مخرجيْ الفيلم، إلى جانب غياث أيوب) في التصوير في غوطة دمشق الشرقية المحاصرة، على خطوط التماس، في عزّ المعركة، أثناء اقتحام وتحرير مخفر دوما، تحت قصف طائرات الميغ للأحياء الآهلة بالسكان، في المقابر،.. يتابع مصائر وشخصيات وأحوال، لينتهي بمشهد ختامي يظهر شاباً يصاب بطلقتين من قناص  على مرأى كاميرا المصور الذي كان إلى جانبه، لكن الكاميرا تبقى وحدها مرمية على الأرض مستمرة في تسجيل المشهد، وحين يجري سحبها بأنبوب معدني، أسوة بسلاح الضحية الفردي، سيلاحظ منقذُها أنها ما زالت تصوّر، فيقول عبارته التي ستصبح عنواناً للفيلم الوثائقي الجريء: "لسّه عم تسجّل".

ما زالت الكاميرا تدور إذاً، برغم طلقات القناص، وبرغم الحصار الرهيب. لا شك أن صنّاع الفيلم أرادوا تمجيد هذا الفن ودوره، فلولا الكاميرا لما استطاعت قضية السوريين أن تكون على شاشات ومنابر العالم، منذ كاميرا الجوالات الأولى المطاردة في المظاهرات السلمية، إلى الأكثر احترافية التي سجّلت أكثر الأفلام الوثائقية احترافية فوصلت بالمأساة إلى أوسكارات وجوائز ومهرجانات رفيعة.


أول دروس الفيلم استحالة انصياع فن السينما للقواعد. يلاحظ أحد نقاد الفيلم تلك المفارقة بين المشهد الأول الذي يظهر المخرج سعيد البطل يعطي درساً لمتدربين في دوما بخصوص قواعد اللقطة السينمائية والكادر، وبين اللقطات التي يصورها هو نفسه على الأرض، والتي تأتي بالغة الاهتزاز، من دون أي انصياع للقواعد. فتلك هي الحرب، المختبر الذي يستحيل يبقي على قاعدة، أو بناء جاهز.

وعلى ما يبدو، فإن الدرس الثاني الذي أراده مشتغلو الفيلم هو حياد الكاميرا، هذه التي لن تجهد في البحث عن أسباب كل هذا، أو عن إدانة طرف ما. لكن بالإمكان القول إن الحياد هنا خيار فني لا سياسي. فليس المقصود تجنّب قول حقيقة الأشياء، لأن الكاميرا مشغولة بأمر آخر هو تصوير الحرب من داخلها: كيف يصعد مقاتل إلى شجرة لجني حبات التوت على إيقاع الخوف من قناص مقابل. كيف يخبز الناس أعلاف البقر لسد الرمق. كيف يحطّبون، ويعيشون في بيوت "عالحديدة" تماماً، قلق المقاتلين على خطوط التماس وخوفهم، بل وضجرهم من حال الثبات الذي أبقاهم طويلاً في المكان ذاته من دون تقدم شبر أو تراجع، غناؤهم، رقصهم، ومزاحهم.

إلى جانب ذلك تتعهد الكاميرا محاورة بين ثائر ومقاتل من جنود الأسد على اللاسلكي، تعود إليها كلازمة، كدلالة على حوار عبثي، لا يفضي إلا إلى انسداد في كل مرة. كما لا تتردد بالتقاط بعض الممارسات الخاطئة للفصائل، كالاعتداء على أسرى النظام بعدما كانوا قد أعطوهم الأمان، كما يقول صوت مقاتل.. أو إتلاف الخمور، أو سرقة أملاك مؤسسات عامة، أو محاولة الاعتداء على المخرج ورفيق له أثناء كتابة شعارات على الحيطان تنادي بإطلاق سراح زميلهم زياد الحمصي من سجون "داعش"، فقط لأن عابر سبيل لم تعجبه أشكالهم. كذلك لا تنسى تلك السيدة العابرة المقهورة بلا حدود، والتي طلبت منهم أن يصوروها كي ترسل برسالة لأمها في الجانب الآخر من الحرب، وهم نقلوا رسالتها بأمانة وهي تتحدث عن القذائف التي تلقى من هذه الجهة فتصيب إخوة هناك، والقذائف التي تخرج من هنا فتصيب إخوة هنا.

يبلغ الحياد ذروته مع إهداء الفيلم "إلى كل مَن رفع الكاميرا في وجه صراع". ويبدو أن كلمة "صراع" هنا تشمل الوضع السوري، إذ إن كاميرا الفيلم تصنفه كذلك "صراعاً"، وتقف هي إزاءه كموثِّق. 

حكاية جيل
في الإعلان الترويجي الخاص به، يَرِد أن الفيلم هو "بورتريه ذاتي، لجيل متعطش لرواية قصة من داخل الحرب". وبالفعل فإن معظم الشخصيات الواردة فيه هي من جيل شاب. ولكي تكتمل صورة الجيل كان لا بد للمخرج أن يستعين بكاميرا صديقة تحت سيطرة النظام. هناك حيث سنرى سوريين آخرين (مجموعة من الشبان بالذات) يعيشون فوق غيمتهم الخاصة، الشرب والسباحة شباناً وشابات، الرقص، الفاضح أحياناً، التاتواج. هكذا يظهر صديق المخرج ميلاد، طالب الفنون الجميلة آنذاك، والذي سنراه في آخر مشهد من دمشق النظام إثر مجزرة الكيماوي في 21 آب/اغسطس2013، بيده كاميرا يصور شاشة التلفزيون التي تعرض مشاهد من المجزرة، كما يصور صديقته تبكي قبالة الشاشة، يصور أصدقاءه يغطون في نوم عميق غير مكترث، لنراه بعدها وقد تسلل إلى الغوطة المحاصرة. لقد شكّلت المجزرة فاصلاً ومنعطفاً في حياته، فقرر أن ينتمي إلى الجانب الآخر. يسأله صديقه المخرج ماذا جئت تعمل هنا، يجيب: "شو جاي سياحة! جاي ثورة".


ميلاد (هو ميلاد أمين، الفنان الذي يرد اسمه كأحد مصوري الفيلم) يقوم بإنشاء استديو للبث الإذاعي في الغوطة، إلى جانب أعمال عديدة من قبيل تلوين الجدران العامة بالألوان المبهجة، مشركاً الأطفال في التلوين، والرسم على الجدران بعبارات مثل "لا تصالح"، "اصبر يا وطن"، ورسم لثائر ملثّم بعلم الثورة رافعاً شارة النصر.

سيشيع ميلاد بهجة في شوارع المدينة لم نشهدها في فيديوهات منقولة من هناك من قبل، لكن، على ما يبدو، مع اشتداد الحصار وتثاقل الخيبات وانعدام الأمل سيقرّر الهروب من الغوطة من جديد. يسأله المخرج لماذا يريد أن يغادر، فيجيب بأنه سيترك المكان للسبب نفسه الذي دفعه للهروب من دمشق النظام من قبل، يقول: "بتكتئب، هل أقلّ من أنك تكتئب كسوري؟"، ويبدو أنه يقصد أن تلك الكآبة هي السبب في الهروب.

من بين أبرز ممثلي الجيل، الذي يروي الفيلم حكايته، شاب ظهر في أول الفيلم كقناص، كانت الكاميرا تحادثه وهو يصوب بندقيته من فتحة في جدار، يضحك، يستمع إلى فيروز، يحادث أمه هاتفياً، ثم نراه في مواقع أخرى يرقص ويضحك مع الأصدقاء. شاب مليء بالحياة والمرح. ويبدو أن الخيبة ذاتها، وعدم جدوى الحرب، دفعته إلى التحول عن وظيفة القناص معلناً توبته النهائية ليعمل في مخبز. هكذا، من قناص قلّما يأسف على ضحاياه، لعامل يعجن ويخبز ويضحك للناس، كل ذلك الموت، كل هذه الحياة.

في مشاهد الفيلم الأخيرة سنكون مع المخرج البطل نفسه عازفاً على بيانو، عزف سيرافق ختام الفيلم حتى التتيرات الأخيرة. لا شك أن صناع الفيلم يعرفون فيلم "عازف البيانو" لرومان بولانسكي، وربما أن بيانو الفيلم السوري مقصود للتذكير بذلك الفيلم كواحد من أجمل أفلام الحرب. ربما كان الأمر أيضاً جزءاً من التحية التي أرادها الفيلم للسينما، لسينما الحرب بالذات. لكن على أي حال، واضح أنه هناك أشياء يمكن للناس أن يفعلوها في الحرب، غير إطلاق النار.

"لسّه عم تسجّل" فيلم شجاع بحق، لسينمائيين وجيل شجاع. كل هذا الموت (ولقد رأينا أسماء من قتلوا أثناء تصوير الفيلم) وهناك من يصرّ على السينما إلى النَفَس الأخير، وربما إلى ما بعد النفس الأخير، ما بعد طلقات القناص. لأنه لا بدّ للرواية (الحقيقة)-على الأقل- أن تنجو. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها