السبت 2018/10/27

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

"ذروة"... مرحباً بكم في جحيم غاسبار نويه

السبت 2018/10/27
"ذروة"... مرحباً بكم في جحيم غاسبار نويه
يخرج المخرج المجنون كل ما في جعبته بغية إتعابنا نفسياً، سمعياً وبصرياً، وهنا براعته
increase حجم الخط decrease
ليس فيلم "ذروة" خارجاً على سياق ما سبقه من أفلام الأرجنتيني غاسبار نويه المثيرة للجدل. إلّا أنّه أكثر أفلامه إرهاقاً. عبقرية سمعية وبصرية، هيكل سايكاديلكي وبنية دموية. يقولها منذ البداية: لا تتوقع فيلماً سهلاً أو وديعاً، ملصق الفيلم مرآته، يبدو كلافتة تحذيرية، صورة خانقة، خلفية سوداء قاتمة، أحمرٌ فاقع، أحرف فوضوية وتسلسل حذق شيطاني. في الملصق يستعرض نويه نعوتاً رافقت أفلامه، يمرّغ بوجوهنا عناوين أفلامه ثم يبشّرنا بعودته متوعّداً إيّانا بذروته الجديدة.


في بداية الشهر المقبل تستقبل بيروت "ذروة" لغاسبار نويه، ضمن فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان "مسكون" المتخصص في سينما الرعب والفانتازيا والإثارة والحركة والخيال العلمي. إنّه المكان المثالي للفيلم الذي عرض في مهرجان "كانّ" الأخير. تدور أحداثه في منتصف التسعينات وعن عشرين راقصاً وراقصة وطفل واحد. هم في مدرسة تقع في قلب غابة، يجتمعون من أجل بروفة أخيرة ممتدة على ثلاثة أيام وتسبق العرض الرسمي. يمرّر لنا نويه بعضاً من السوداوية ممهداً لما سيأتي تالياً. ألوان أفلام الجيالو الايطالية، سواد ممزوج بألوانٍ فاقعة وراقصون محترفون يخطون بأجسادهم لوحات كولييغرافية، مع شعارات تظهر على الشاشة من وقت إلى آخر مثل "الموت فرصة فريدة"، "الولادة والموت تجارب غير عادية"، "الحياة متعة مؤقتة"، "التعايش مستحيل"، "فيلم فرنسي وفخور بأن يكون كذلك". تتصاعد الإثارة قبيل الانتهاء من الرحلة التمرينية مع إقامة حفلة الوداع والرقصة الأخيرة، وسرعان ما يتحول الجو الى رمادي قاتل طوال الليل. لا شيء مؤكداً، يبدو الراقصون واقعين تحت تأثير نوع من المخدر دُسّ في مشروبهم وهم غافلون. باتوا مشرّعين على مشاعر تغلب على عقولهم، تمزّقهم مخاوف أقرب إلى التهيؤات، تعصف بهم مزاجات متقلّبة ومتناقضة وتستشرس فيهم غرائز دموية. يلمس فرنسي الهوى، لهيب الجحيم، فيصوّر هيجاناً جنسياً، هذياناً عقلياً، أذى ذاتياً وجنونَ عظمة. الموسيقى التي حرّكت فيهم يوماً كلّ ذرّة راقصة، بات إيقاعها معاكساً. إيقاعٌ يودي بقلّة منهم إلى الجنة ويغرق أغلبهم في الجحيم.

لم نتوقّع ما هو أقلّ من المخرج الأرجنتيني. الفيلم رحلة سايكاديلكية (هلوسة) بمفارقة جلية، إذ يستيقظ ويتأهّب خلالها الوعي بعد تعاطي المادة المخدّرة. رقصة مميتة تشوه الأرواح تدريجياً، تنصهر الاجساد وتفقد شكلها المألوف لتتحول حممًا من اللحم والعرق والدم والتي نكاد نشتم رائحتها المقيتة. بالطبع ليست هذه الرحلة مساراً مستقيماً بل موجات فوضوية. دفعة من الطاقة يليها هبوط مفاجئ وهدوء مريب، ثم هستيريا فجنس ورقصٌ ورعب. إنه عد تنازلي دائري، فنهايته تعيدنا إلى نقطة البداية من جديد. هو كلّ ما في نويه يتكرر مجدداً في بنية أكثر ترتيباً، خليط متفجر من كل شيء، فيلم لا يهدأ وكاميرا منتشية كأنها هي نفسها تحت تأثير المخدر. دوامة بصرية سمعية تهدف إلى سحق الشخصيات وبثّ الرعب والتوتر، عبر تصاعد الأحداث وخضّ الأحاسيس وصخب الموسيقى. إنها الفوضى دون أيّ منفذ.

الذهاب لمشاهدة فيلم لغاسبار نويه، مغامرة لا تنتهي على أبواب صالة العرض بكلّ تأكيد. تأكّد أنّ المخرج الأرجنتيني لديه القدرة على تدمير يومك بكل ما للكلمة من معنى. مشاعرك لن تبقى على حالها، ستحاول الهرب من الصورة، ستغمض عينيك في بعض اللحظات وقد تسدّ أذنيك كذلك. من المتوقّع أيضاً أن تخرج بتخبطٍ معويٍ، بعينين زائغتين ورأس ثقيل ومع قدرة معدومة على التركيز. للذين يتوقعون قصة متكاملة الأضلع عند الذهاب لمشاهدة فيلم، غاسبار نويه سيضع إصبعه في عيونكم. في "ذروة"، لا قصة، ولا دراما، ولا كوميديا.. إنه الجحيم.


إذاً لماذا نصرّ على مشاهدة افلام نويه؟ لماذا أفلامه موضع احتفاءٍ في مهرجانات عالمية مثل "كانّ"؟ لأن عبقريته رغم سوداويتها لا يمكن إنكارها، نتحدّث عن التصوير وعن العمل الإخراجي المنصهر في سياقٍ استفزازيٍ معاكسٍ للزمن، قمعيٍ وآسر. كاميرا نويه دائماً تنازع قانون الجاذبية بدوران 360 درجة، بمشاهد رأساً على عقب، بأرضية غير ثابتة والكثير الكثير مما يجعل التجربة السينمائية في غماره لا تُنسى. نويه كذلك ينزع دوما للخروج من العلبة، بمعنى معالجة قضاياه بطرق غير مألوفة، بجرأة غير معهودة. هو يتقن تعرية طبيعة الانسان الغرائزية على الشاشة بينما يعالج قصصه الساخنة. من العنف إلى تدهور المجتمع، العلاقة الابوية والعائلية والأخوية، الإثارة الجنسية، الاغتصاب وصولاً للحب، المخدرات، الانتحار والموت. وفي عمله الأخير "ذروة" يطرح كلّ ما سبق ويضيف اشكاليتي الاجهاض وقيمة الحياة. إلى جانب ما سبق من لعبٍ على القضايا والطرق الهجينة في تناولها وتصويرها، يلعب نويه على الصوت بطريقة مزعجة ومؤرقة. "ذروة" هو سمفونية الصراخ، صوت الفيلم دوماً على اعلى الدرجات. هي ساعة ونصف الساعة من الغيبوبة الإيقاعية على وقع موسيقى التكنو الضاربة على رؤوسنا. هكذا يكبّلنا نوي لمدة 95 دقيقة كاملة، يعرضنا لكافة أنواع الصخب الموسيقي والجنون المشهدي لينتهي بنا الامر إلى شعورٍ عارمٍ بالمقت.

في "ذروة" هامشٌ هائل من الارتجال، من غالبية ممثلين غير محترفين باستثناء الفرنسية صوفيا بوتيلا، إلى رقص فريقٍ من المحترفين ارتجالياً على وقع الفيلم وصولاً إلى تتالي الأحداث. خلال 15 يوماً انتهى نويه من تصوير فيلمه مستنداً إلى سيناريو من خمس أوراق فقط. هنا نفهم بعضاً من طريقة عمل غاسبار نويه الجنونية، فالفوضى تهيمن على ذائقته الفنية. يخرج المخرج المجنون كل ما في جعبته بغية إتعابنا نفسياً، سمعياً وبصرياً وهنا تكمن براعة الرجل وفرادته.

خلال عرض الفيلم في صالات "كانّ"، تقلّب المشاهدون في كراسيهم، بحثوا عن مهرب أو على الأقل استراحة واستجدوا النهاية. ومع إضاءة الأضواء لم يقفوا فوراً، هي دقائق ليمتصوا الجرعة السينمائية المخدّرة التي تعرّضوا لها. وهذا بلا أدنى شك أكبر مديح وأعظم إطراء لغاسبار نويه، ولما هو برأيي أجمل ما قدمه حتى الآن. فمرحباً بكم في جحيم "ذروة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها