الجمعة 2018/10/26

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

"يوم الدين": الحبكة خارج الفيلم

الجمعة 2018/10/26
increase حجم الخط decrease
يصل الرجل الفيل إلى محطة القطارات اللندنية "ليفربول ستريت"، آتياً من بلجيكا، بعدما نجح في الفرار من "سيرك المسوخ" المتجول هناك. لكن إفلات الرجل الفيل من أيدي خاطفيه بمساعدة زملائه "المسوخ"، وعودته إلى موطنه، لم تكن نهاية معاناته. فبمجرد أن يصل إلى المحطة المركزية والمزدحمة، وفي مشهد الذروة في فيلم المخرج ديفيد لينش الأشهر، يبدأ عدد من الصبية في مضايقته. ومن دون قصد يصطدم الرجل المشوه، بطفلة، ويبدأ الجمهور الغاضب في مطاردته، وينزع القناع الذي يخفي وجهه. وفيما ينهار الرجل الفيل، بين أيدي مطارديه، يصرخ: "أنا لست فيلاً، أنا لست حيواناً...أنا آدمي...أنا إنسان". وفي النهاية، يتم إنقاذه، ويتمتع بإقامة دائمة في أحد المستشفيات، برعاية الملكة نفسها.  

وعلى بعد عشرة دقائق سيراً على الأقدام من محطة "ليفربول ستريت" نفسها، تعرض سينما "ريتش ميكس"، الفيلم المصري "يوم الدين" في إطار مهرجان لندن للأفلام. وفي شاشتها، كان مخرج الفيلم، أبو بكر شوقي، وكأنه يعيد تركيب مشهد مطاردة المحطة في فيلم "الرجل الفيل". فبطله، "بشاي"، الرجل متوسط العمر والذي يخفي وجهه المشوّه إثر إصابته بمرض الجذام، ينتهي أيضاً لصفعات وركلات ركاب القطار الذي يتكالبون عليه تقززاً من شكله، وخوفاً من ملامسته لهم. وفي ذروة هادئة، يعيد بشاي الصرخة نفسها: "أنا إنسان!".

لكن فيلم "يوم الدين"، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" هذا العام، ورُشّح لتمثيل مصر في جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي العام المقبل، يذهب أبعد من مجرد إعادة بناء "الرجل الفيل". ففيلم لينش يعالج قصة حقيقية لشخصية جوزيف ميريك، مسجلاً لحظة التحول التاريخية في العصر الفيكتوري، من معاملة "المسخ" كعنصر للعرض والاستغلال إلى "العزل" في المستشفى، ومن موضوع للتسلية والتنمر إلى موضوع للضبط الطبي وبيروقراطية الدولة. لكن "يوم الدين" يذهب في رحلة مغايرة تماماً، وفي الاتجاه المعاكس أيضاً، وبوعي عميق لإشكالية المؤسسة.
 

يخرج بشاي من مستعمرة أبو زعبل للجذام، بعدما توفيت زوجته إيريني التي كانت محتجزة في عنبر للأمراض النفسية، مغامراً بالقليل من أمان الاختفاء في "جبل الزبالة" حيث يعمل، والعزلة بين "العيانين" من سكان المزرعة. يرحل بشاي، ليبحث عن أهله في محافظة قنا، وليواجه عالم "الأصحاء" الذي لفَظه. يتبعه "أوباما"، الطفل الأسمر اليتيم، الذي يتردد أمام فرصة معرفة ما حدث لوالديه من واقع السجلات الحكومية في "المؤسسة" (ملجأ الأيتام). عن قصد أو عن غير قصد، تبدأ رحلة بشاي، من حيث انتهت رحلة الرجل الفيل. لكن مخرج العمل لا يفلت فرصة تأكيد النظام المؤسسي، في الملجأ والمستعمرة والمشفى العقلي، للتصنيف والعزل والتدخل، لفرز المغايرين والمختلفين وإخفائهم. فمجموعة "المنبوذين" أو "الوحوش" كما يطلقون على أنفسهم، الذين يلتقيهم بشاي في منتصف رحلته، ويعينونه على استكمالها وإنجاز "البيروقراطية" كما يشير أحدهم ساخراً، هؤلاء يؤكدون له أنه لا خلاص من نبذهم سوى في "يوم الدين" حين يصبح الجميع سواسية. فالأمر ليس مجرد لعنة من الطبيعة، بل منظومة مُحكَمة للنبذ والتهميش، لا تقتصر على المرض. فالدين أحد خطوطها (بشاي قبطي)، وكذلك اللون والأصل الإثني (أوباما يرجَّح في الفيلم أن يكون من النوبة).

لا يقدم العمل تجسيداً للمعاناة تستدعي شفقة المشاهد، بل على العكس، هو غزَل في روح التضامن بين المنبوذين. يحتفي بالمثابرة على الحياة والحاجة الأصيلة للآخر. ويسرد لحظات من البراءة المخلوطة بحكمة المعاناة الطويلة وبهجة المحرومين، فيما يمضي في رحلة البحث عن الجذور والهوية المفترضة، التي تنتهي إلى لا شيء، سوى أن أبطاله "شافوا العالم". لا يعتمد مخرج الفيلم على قصة واقعية مثل "الرجل الفيل"، لكن راضي جمال، الذي يقوم بدور بشاي في الفيلم، وهو نزيل سابق في مستعمرة "أبو زعبل" بالفعل، يعطي بُعداً أعمق وأكثر دفئاً وألماً من الواقعية. ويطغى حضور راضي، وأداؤه الطبيعي المتجاوز للإتقان الاحترافي، مع كاميرا شديدة الحساسية، وموسيقى منسجمة مع الصورة، على تعثر بعض المشاهد وضعف أداء الممثلين المحترفين.

يقرر بشاي العودة إلى المستعمرة، وأوباما إلى الملجأ في النهاية. فالعالم قاس في الخارج، وتوحي النهاية المحبطة قليلاً، بالرضى عن تقسيمة الواقع كما هو، أو بالتأقلم معه على مضض لا يحفز أحداً على مقاومته. لكن، في الواقع، يغادر راضي جمال مستعمرته، لتستقبله السجادات الحُمر لمهرجانات السينما، وتسلط عليه كاميرات التلفزيون، لا بوصفه ضحية مرض الجذام، بل بصفته نجماً. ويثبت "يوم الدين" أن الحبكة أحياناً تتجاوز حدود الفيلم، وتتمدد إلى خارجه، بل وتغير الواقع، ولو قليلاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها