الثلاثاء 2018/10/23

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

دونالد داك.. عميلاً للإمبريالية الثقافية

الثلاثاء 2018/10/23
increase حجم الخط decrease
حين كانت شبكة "ديزني" في أوج مجدها، متربّعةً على عرش الطفولة في عالم الترفيه بتجسيدها كل ما هو نقي وبريء - أو هكذا قدّمتها أميركا إلى العالم- خرج مؤلفان إشتراكيان ليهزّا هذا العرش، ويحطما إحدى أكثر الشخصيات التلفزيونية شعبيةً؛ "دونالد داك" الذي صنّفاه "عميلاً للإمبريالية الأميركية".

كان ذلك في العام 1971، إبّان خوض التشيلي تجربة إشتراكية مع وصول سلفادور آلليندي إلى سدّة الرئاسة من خلال انتخابات ديموقراطية. ومع إنقلاب الأوضاع السياسية، راح المفكرون والفنانون يبحثون عن كلماتٍ تصف هذا الواقع الجديد. وفي ظلّ هذا المناخ الثوري، خرج دليل لقراءة دونالد داك، للكاتب الأرجنتيني-التشيلي آريال دوفمان، والسوسيولوجي البلجيكي آرماند ماتيلارت، بعنوان "كيف نقرأ دونالد داك".

عمل المؤلفان على تفكيك شخصية دونالد داك، التي إبتدعها والت ديزني في الأربعينات، والكشف عما يحرّكها من نزعاتٍ إستعمارية تبيع شعوب العالم الثالث وهماً كاذباً بالنجاح والسعادة القائمين على الإستهلاك الأعمى. إذ لم يكن من الكافي، وفق دورفمان، تغيير البنى الاقتصادية والإجتماعية، بل كان من الضروري أيضاً فهم كيفية عمل الحكام السابقين للتشيلي، وكيفية ترويجهم لقيم "التنافس عوضاً عن التعاون، التعصب عوضاً عن التفكير النقدي، الخضوع عوضاً عن التمرّد، الأبوية عوضاً عن المقاومة، والمال عوضاً عن التعاطف".



عرّى الكتاب مغامرات دونالد داك، لتظهر خلف طرائفها أيديولوجية زاخرة بالتمييز العرقي، وإحتقار الأجانب والمهاجرين، والريبة من النقابات العمالية. فشخصيات هذه السلسلة الكرتونية من أجانب العالم الثالث يظهرون في صورة البرابرة أو الأطفال الأغبياء، وبالتالي تجدر معاملتهم على هذا الأساس. في عالم دونالد داك "النبيل"، لا جوع ولا فقر ولا عوز، فهو يشتري ويستهلك من دون توقف، وإذا خرج للعمل فلشراء هدية باهظة الثمن لصديقته أو للذهاب في رحلة إستجمام، وليس لسدّ حاجاتٍ معيشية. أما أولئك الذين لا يملكون مليماً، فهم "الأشخاص السيئون" أي العمال والفقراء. وتصوّر السلسلة، التاريخ، كحلقة مستمرّة من المغامرات حيث يحاول الأشرار (الفقراء) سرقة أموال الصالحين (الأغنياء)، ليفشلوا كلّ مرة. وهذا بالطبع مع إستحالة إرتقاء الفقراء إلى منزلة "الصالحين".

هكذا اختزل والت ديزني الصراع الطبقي، ليستخدم هذا الإنتاج الثقافي كوسيلة تأثير وترويج للقيم الأميركية في زمن الحرب الباردة، وما بعده. ومن هنا، رأى المؤلفان ضرورة تحدّي السردية الأميركية، وإختلاق قصص من صنع شعوب العالم الثالث وذلك بغية "إسترجاع أحلامنا ورغباتنا من قبضة المستعمر، تماماً كحاجتنا لإستعادة مواردنا الطبيعية كالبرونز".

لكن هذا المشروع المتفائل لم يدم طويلاً، مع إنهيار حلم بناء دولة الإشتراكية الديموقراطية في تشيلي بعد الإنقلاب العسكري الذي أسقط حكومة آلليندي وأحلّ مكانها نظام بينوشيه الديكتاتوري. وفي العام 1973، شهدت تشيلي حرق مئات الكتب التي تنتمي إلى العصر الإشتراكي، ومنها كتاب "كيف نقرأ دونالد داك"، الذي أحرق في الشارع من قبل جيش بينوشيه والتيار اليميني. أما دورفمان نفسه، فقد تلقى تهديدات بالقتل، فيما إلتمّ الجيران حول منزله وأخذ الأطفال يرجمونه هاتفين "يعيش دونالد داك".

على إثر ذلك، غادر دورفمان بلاده ليعيش في المنفى، متنقلاً بين دولٍ أوروبية عديدة، قبل أن يستقرّ أخيراً في الولايات المتحدة، الأمر الذي لا يخلو من المفارقة. أما اليوم، وقد فشلت التجربة الشيوعية في العالم، وأصبحت شركة مثل ديزني أغنى سلطةً من أي وقتٍ مضى، يقول دورفمان "لقد حاولنا أن نشوي دونالد داك، لكنه إلتهمنا وإلتهم الإرث الذي سنتركه لأطفالنا". فقد إحتلّت ديزني، في العام 2018، المركز الثاني بين شركات الميديا العملاقة التي تملك معظم وسائل الإعلام الأميركية، وفق تقرير فوربس. وتحت مظلّتها، تعمل مئات القنوات التلفزيونية والإذاعية، الصحف والمجلات، شركات الإنتاج الموسيقي والسينمائي، بالإضافة إلى مرافق الترفيه من منتزهات ومطاعم ومسارح.

لكن أخطر ما يملكه عملاق الميديا هو شخصيات معنوية حفرت في أذهان أطفال العالم ماهية هذا العالم وما يحب أن يكون عليه. لقرابة عقدٍ من الزمن، مارست "ديزني" إستلابها لوعي الأطفال وذاكرتهم، من دون أن يتسنى لأحد إيقافها أو حتى إنتقادها. فبحكم نفوذها الاقتصادي، إستطاعت "ديزني" منع نشر وتوزيع دليل دونالد داك في الولايات المتحدة، وهي نجحت في إبقائه بعيداً من أيدي الأميركيين حتى وقت قريب، إذ تتمّ طباعته حالياً للمرّة الأولى في الولايات المتحدة، وللمرة الثانية في المملكة المتحدة.

إن العودة الى هذا الكتاب بعد نسيانٍ طويل يفسره الكاتب التشيلي بقراءةٍ سوسيولوجية للأوضاع السياسية الراهنة في العالم الغربي. فإستفحال ظاهرة التطرف اليميني والقومي في أوروبا وأميركا، تذكّر دورفمان بما حلّ بتشيلي خلال حقبة بينوشيه. محبّو ترامب وتيريزا ماي، تماماً كمحبّي دونالد داك في تشيلي الذين أحرقوا كتاب دورفمان، هم صنيعة الثقافة التي نشرتها "ديزني" وشبيهاتها، وهم يركضون وراء "مخلّصين يعدونهم بماضٍ خرافي يتسم بنقاءٍ خيالي".

ومع نشر الكتاب في أميركا للمرة الأولى بعد 47 سنة من إصداره، يتيح دورفمان للأميركيين التنحي قليلاً عن هيمنتهم الثقافية والتعلّم من تجربة ثقافية نابعة من العالم الثالث.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها