الخميس 2018/10/18

آخر تحديث: 10:29 (بيروت)

أنا والنظام

الخميس 2018/10/18
أنا والنظام
increase حجم الخط decrease
أنا والنظام. أنا وعائلتي والنظام. نحن – المهاجرين الجدد إلى هذه الأرض الأوروبية – ونظامها. ثنائيات لا تنفك تتقافز على حبال أفكارك، وتُسائلك بإلحاح في ما كنت قد حسمته من قناعاتك كبديهيات. بل تطرح عليك أسئلة غريبة عجيبة، لم تكن لتدرك أنها منطقية، أو معبّرة عن واقع ما. والأسئلة بدورها مكوّنة من ثنائيات، إنما من قبيل ما كانت معلّمة الحساب في المرحلة الابتدائية تحظر عليك دمجه في عملية حسابية واحدة، إذ لا يمكن جمع أو طرح برتقال وتفاح.. فكيف يكون طبيعياً سؤالك لذاتك: هل أريد النظام العادل.. أم الحرية؟! 


ليس الكلام، بالطبع، عن النظام كسُلطة حاكمة، رغم أن النظام المقصود ههنا هو جزء من آلية الحكم، ولنقُل أنه مِلحُه وتوابله، لكنه سابق لوجوه السلطة الراهنة وسيبقى لاحقاً عليها. لا يتغير بتغيّرها. والرؤساء والوزراء، النواب والعاملون في الشأن العام، لا يستطيعون مسّه إلا في حدود معينة. هو السيستم. تلك الماكينة العملاقة، العاملة بقوة الدفع الذاتي تقريباً، وترتب شؤون الحياة اليومية. وهي، رغم ضخامتها، لا تتعفف عن التفاصيل. بل تجد الوقت والطاقة والتُّروس، البشرية والإدارية والقانونية، من المقاسات كافة، لمضغ وهضم وإعادة إنتاج الهوامش، أسوة بأكبر قضايا المتن.

هو السيستم المهيمن، بتوافق المجتمع والسلطة. تراكُم الأعراف والتقاليد البيروقراطية، بتحديثاتها وأوراقها الكثيرة ومسالكها المعقدة. يتداخل السيستم مع السياسي والاجتماعي والثقافي، بدءاً من روح الدستور، وصولاً إلى مراكز القرار المحلية لكل حي، ضمن كل منطقة، داخل كل مدينة. يحوي كل تلك الأنظمة في بطنه، لكن كل تلك الأنظمة ليست وحدها مؤلِّفته. كما أنه ليس صحيحاً تماماً، اختزاله في "الدولة"، ولو أن الأخيرة من أبرز أسمائه الحسنى.

هو النظام الذي يطرح عليك، كوافد حديث إلى فرنسا، معضلة غير متوقعة، بل وقد يحبطك. وأنت الذي بحّ صوتك، في لبنان، منادياً على الدولة الحاضرة بغيابها، والمتنصلة من كل شيء تقريباً إلا ترتيب محاصصات زعماء الطوائف. وفي مصر، صارخاً في وجهها بعدما استحكمت فتضخمت، ثم فسدت وترهلت، وما زال غبارها يملأ الهواء الذي تتنفسه. وفي سوريا، غاضباً وحاقداً على مقتلاتها واستبدادها، بطشها واستخباراتها، سجونها وطائفيتها المموهة، و"خدماتها" التي لا تني تجعل العيش أقسى.

أنت في فرنسا، بعدما جفّ ريقك مُطالباً – عبثاً – بحُكم القانون، بالعدالة والمساواة والمحاسبة والشفافية، بالمدنية وتكافؤ الفرص.. والمعضلة الآن تحيّرك، حتى في وضع عنوان لها.

هنا، تنتظر أن يستوعبك النظام، لتبدأ الحياة: فتح حساب مصرفي، استئجار منزل، إيجاد مدرسة لطفلك، ولم نصل بعد إلى الدورة الورقية الهائلة للتأمينات الاجتماعية والصحية.. ذلك الحلم المطلبي الذي يشغل صحافة بلادك ومجتمعها المدني وغالبية مواطنيها. وهنا، رغم جودته وإنصافه، هو محفوف بأخطار "التطفيش البيروقراطي".. إلا مَن كان عنيداً ومثابراً طويل النَّفَس. والحال إنك لا تستطيع فتح حساب مصرفي من دون استئجار بيت أو حيازة عقد عمل فرنسي، ولا تستطيع العمل إلا بعد فترة من إقامتك، ولا تستطيع استئجار بيت عبر الشركات العقارية الوسيطة إلا بعد عقد العمل الثابت والمستمر، ولا تستطيع ايجاد المدرسة إلا بعد استئجار البيت... وهكذا يدور الدوار، وتتوه فيه.

هذا السيستم الذي يشبه بويضة الأنثى العصية على الاختراق... إلى أن ينجح في ذلك حيوان منويّ واحد، من أصل ملايين، بعد محاولات حثيثة يسقط دونها مَن يسقط. في النهاية، سيستقبلك السيستم. ستذلل الحواجز بعضها بعضاً على طريقة أحجار الدومينو. لكنك، قبل ذلك ستختبر صَبرك، ومعه مبادئك. ألم تكن قضيتك دوماً هي الدولة والمؤسسات؟ هذه دولة، وهذا قانون، وهذه مؤسسات. هكذا تعمل وتبدي فاعليتها، وهكذا تُدبّر مقومات الاستقرار. وهكذا، تتمتع أنت، كبقية الفرنسيين والمهاجرين، بنقل عام منتظم، وحدائق مجانية جميلة ونظيفة، وانترنت وكهرباء وماء وطرق بلا هنّات، وقضاء يؤدي وظيفته، ورأيك تعبّر عنه بلا خوف.. إلى سائر مقومات العيش في العالَم الأول. فلماذا الشعور بفقدان مقدار معتبر من الحرية؟

في الوطن الذي ارتحلت عنه طوعاً وسأماً، تختار المدرسة وفقاً لميزانيتك، تسجل طفلك، وينتهي الأمر. وكذا الأمر في استئجار البيت. والحساب المصرفي لا يحتاج إضبارة. وطن اللانظام، يبدو الآن مساحة رحبة لقرارات تتخذها بمعرفتك وإمكاناتك من دون أن تنتظر أحداً.

هل اعتدنا ليبرالية مفرطة؟ الوطن لم يكن ليبرالياً، بل لم يكن أي شيء، سوى الحقوق المهدورة، والتمييز بـ"الواسطة"، والعبث الذي يمسي هو "النظام". والليبرالية ليست غريبة في فرنسا، وإن حُفظت مساحة معقولة لسِمات الاشتراكية، أو الدولة الراعية. للمنظومة الفرنسية العامة أزماتها وتجاذباتها، ونقدُها دائم من داخلها ومن خارجها، لكنها تعمل، وتبدو محقِّقة للصالح العام بأكثر من الحد الأدنى.

ما الخطب إذن؟ لسنا هنا أفراداً؟ بلى، والنظام الفرنسي يؤكد ذلك كل يوم، وأكثر بكثير مما كنّاه في بلد المنشأ بجهد حثيث. فهناك، لا مفر من أن تُحسب على جماعة ما، شئت أم أبيت. على عائلتك، منطقتك، طائفتك. ولفرط الفردانية الفرنسية، ستصادف يومياً، في المترو وفي الشارع، نماذج من المسنين أو المخبولين أو المشردين، الذين تربّيتَ على أن "الجماعة" تحتويهم وإلا فهو العيب والعار، أقلّه على أشقاء هذا العجوز أو أولاد تلك الخَرِفة. وهنا هم مسؤولية المجتمع ككل، والدولة، والنظام إياه. يتواجدون في الحيز العام، بمآسيهم الظاهرة، لكن أيضاً بطمأنينة. ولعل مَشهد تلك العجوز الفرنسية وهي تُفاصل موظفة الصندوق في سوبرماركت شهير، على 20 سنتيماً (لسبب لم يتضح للمنتظرين المَلولين في الطابور، ولا للموظفة على الأرجح)، يظهّر المعنى الأقصى والأبسط للفردانية: فهذه امرأة سددت ضرائبها طوال سنوات طويلة، وتحظى الآن بمخصصات وتقديمات التقاعد، المدروسة لتكون كافية بلا فوائض، وها هي تدافع بشراسة عما تراه حقها في ألا تُكلَّف سنتيماً إضافياً واحداً من دون تبرير يقنعها، وإن اضطر السامعون لتحمّل منطقها الذي نال منه العُمر.

ويعود السؤال: هل نخسر هنا حرية ما؟ حرية الفوضى؟ أم أننا نكسب تدريباً، ولو شاقاً، على نظام تمنيناه؟ هل هذا هو النظام الذي لطالما نشدناه مع كل صرخة "وينيي الدولة"؟ والأحلام، حين تتحقق، تحتاج أيضاً إلى التأقلم؟ لا بدّ لإجابات أن تتبلور.. خلال سنوات.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها