الأربعاء 2018/10/17

آخر تحديث: 11:00 (بيروت)

أبوة أميركية

الأربعاء 2018/10/17
أبوة أميركية
اللبناني جورج شيشم خاض معركة قضائية العام 1894 ليثبت أنه أبيض البشرة
increase حجم الخط decrease
نبهتني ياسمين أكثر من مرة، قبل تحركنا إلى المستشفى، أن آخذ ملابس وغيارات لي. وطبعاً رفضت. فقد تربيت في عائلة طبية، ودخلت عشرات المستشفيات في حياتي، وفي النهاية نحن ذاهبون للولادة، الأمر لن يستغرق سوى بضع ساعات بالتأكيد، ظللت أردد لنفسي.

في مصر، حيث يولد طفلان ونصف كل ثانية، لا تمتلك المستشفيات ولا أطباء النساء والولادة، رفاهية الانتظار. الطبيب يعطيكِ موعداً، تذهبين، فيفتح، ويخرج المولود. معظم نساء العائلة وصديقاتي في مصر، يحملن تلك الندبة الشهيرة للولادة القيصرية. استغربت الطبيبة الأميركية الأمر، وقالت لنا أن الولادة القيصرية لا تُجرى إلا في الحالات الطارئة التي تتطلب التدخل الجراحي، وعلينا الانتظار حتى يقرر المولود الخروج.

كنت قد اعتقدت أني صرت محصناً من الاندهاش أمام الفروق بين الشرق والغرب. أنا الآن في منتصف الثلاثينات، وأزور أميركا بشكل شبه منتظم منذ أكثر من عشر سنوات. توقعت أن ينتهي الأمر في ساعات، لكننا قضينا في المستشفى أكثر من ليلة، واضطررت للعودة لإحضار ملابس من المنزل، وأثناء تلك الليالي في المؤسسة الطبية الأميركية عاد إليّ اندهاشي.

وضعونا في غرفة واسعة، ملحقة بها غرفة صغيرة مخصصة للمولودة، وبالطبع حمّام. وإلى جانب السرير الطبي المخصص لياسمين، كرسي جلدي واسع يمكن فتحه ليتحول إلى سرير. بدأ الأطباء والممرضات إعطاءها العقاقير المحفزة للولادة الطبيعية. مع كل مرحلة يطرحون عليها السؤال ذاته: "هل تشعرين بالألم؟ من (1-10) ما هو مستوى الألم الذي تشعرين به إذا كان واحد هو المستوى الأعلى وعشرة هو الأعلى".

اندهشت من هذا السؤال. لم يسألني أحد أبداً من قبل عن مقدار الألم الذي أشعر به؟ بل كيف يمكن تحديد مستوى الألم وقياسه؟ ومن دون أن أطرح أسئلتي على أحد، شرحت الممرضة أن مستوى عشرة "سيكون أقصى ألم تعرضت له في حياتك". وفي النهاية حينما شعرت ياسمين بتزايد الألم، استُدعي اختصاصي التخدير ليشرف على عملية نزع الألم بمزيج مختلف ومتباين من العقاقير. وصلوا ياسمين بجهاز لاستشعار انقباضات الرحم، وخارج الغرفة تسهر الممرضة على مراقبة الجهاز، بينما قضينا الليلة في انتظار بدر البدور من دون أن تطل.

استمر الوضع على ما هو عليه حتى اليوم الثاني، وأنا أتساءل: إلى متى سيصبرون علينا؟ لاحظت أن أكثر من 70% من العاملين في القسم، من السيدات، بينما يتولى الرجال مهام تنظيف الغرف. بعد أكثر من 30 ساعة اقتربنا من ساعة الحسم. توقعت أن يتم نقل ياسمين إلى غرفة الولادة، لكن كل ما حدث أن فريق الولادة وصل إلى الغرفة، رفعوا السرير، ثم طلبوا مني مساعدتهم.

لا شيء معجزاً ومبهراً يمكن رؤيته في الحياة، مثل حضور تجربة الولادة كاملة. لا أعرف لماذا تُصوّر في السينما والدراما كتجربة ضاغطة مضطربة تمتلئ بالصراخ والاحتقان. هناك بالطبع الكثير من الألم، وقلق لا يمكنك تحديد مصدره، لكن ما إن تبدأ عملية الدفع، ويبرز رأس المولود، حتى تتغير نظرتك للحياة تماماً. تشاهد المعجزة. قيمة الحياة وحقيقتها الوحيدة تتجسد الآن أمام عينيك.

لاحظت أن الأطباء والمشرفين لا يفعلون شيئاً، بل يراقبون أو يندمجون معي في تشجيع ياسمين ومساعدتها في تنظيم تنفسها وهي تدفع. سألتهم مستفهماً ما الذي من المفترض أن يحدث الآن؟ لاحظت ممرضة اضطرابي، فمنحتني زجاجة شامبو أطفال، وطلبت مني سكب القليل منه على رأس المولودة التى بدأت في الظهور، لتسهيل عملية انزلاقها. ثم، في طرفة عين، انزلقت المولودة إلى العالم. حملوها ووضعوها على صدر ياسمين، بينما منحتني الممرضة المقص وطلبت مني قص الحبل السري.

لم تفارقنا المولودة "سينا" ثانية واحدة. بحسب تعليمات المستشفى، لا يجب إبعاد المولودة عن الأمّ بأي شكل. فور ولادتها، أتت ممرضة أخرى وربطت حول معصمي ومعصم ياسمين اسوارة طلبت منا عدم خلعها حتى خروجنا من المستشفى. أما سينا، فربطوا حول معصمها اسوارة مماثلة، وأخرى حول قدمها مثبت فيها جهاز تتبع gps.

بعد ساعات قليلة من وصول ياسمين، سلمتني الممرضة ظرفاً مغلقاً، شرحت أنه يحتوي على بصمة أصابع يديها وقدميها، وعلى بصمتها الوراثية المحفوظة داخل مكعب والصالحة للاستخدام 18 عاماً. بعد ساعات من الولادة، نُقلنا من قسم الولادة إلى قسم الأطفال.

سعادة غريبة واضطراب هرموني يعصف بجسدي. أنا وياسمين خضنا التجربة وحدنا بلا عائلة ولا أصدقاء. لذا لم أجد مَن أشاركه فرحتي. اقترحت على ياسمين أن اشتري ورداً أو شوكولا لطاقم الممرضات، كنوع من الشكر على حسن تعاملهن. طبعاً في مصر لم يكن طابور الإكراميات ليتوقف، "كل سنة وأنت طيب يا أستاذ، حمد الله على سلامة العروسة". لكن ياسمين نبهتني إلى إشارة في تعليمات المستشفى، تمنع المرضى من إعطاء أى نوع من الهدايا للعاملين. في المقابل، هناك ظرف صغير يمكن أن تكتب فيه اسم العامل الذي ترغب في شكره وتتركه في مكتب الاستقبال.

لزم أن نقضي يومين في المستشفى لكي يراقبوا "سينا". كل شيء عن كيفية التعامل مع المولودة تعلمناه خلال هذين اليومين، بداية من الممرضة التي سهرت معنا طوال الليلة تشرح كيفية إرضاع الصغيرة، وصولاً إلى الممرضة التي حملت معنا الحقائب واصطحبتنا إلى باب المستشفى بل وظلت واقفة حتى وصل التاكسي.

في اليوم الثاني بعد الولادة أتت موظفة، نظرت في أرجاء الغرفة، ثم أعطت ياسمين مجموعة من الأوراق. حتى هذه اللحظة، كل الأوراق الرسمية في المستشفى منحت سينا اسم والدتها. طلبت منا الموظفة تدوين المعلومات اللازمة لاستخراج شهادة ميلاد سينا. أعطتني ياسمين الأوراق لتعبئتها، فسقطت في متاهة البيروقراطية الأميركية وغرائبها.

أولاً، في خانة الأب يمكنك وضع أبوين للمولودة. ليس شرطاً أن يكون من ضمنهما الأب البيولوجي. فالأب البيولوجي له استمارة منفصلة. تمنح الوثائق حرية كبيرة للأم في تسمية المولود ونسبه، ولا يتطلب نسب المولود إلى الأب أي نوع من الوثائق والإثباتات كعقود الزواج مثلاً. لكن البراح يضيق حينما نصل إلى الجزء الخاص بالأعراق، فيجب أن تحدد بدقة عرق الأب والأم. والدقة هنا تعني ألا تكتفي بكتابة "آسيوي" مثلاً، بل أن تحدد من أين في آسيا. فبينما يمنحك النظام الأميركي حرية الدين، والحق التام في الخصوصية والحياة الشخصية، تصنفك الدولة على أساس عرقك، فالمسألة العرقية هي الطبقات التي تكوّن النظام الأميركي. وبهذه المناسبة أحب أن أتوجه بالتحية للمهاجرين الشوام الأوائل في القرن التاسع عشر، وتحديدا ابن قضاء زحلة في لبنان جورج شيشم الذي هاجر إلى أميركا في نهاية القرن التاسع عشر وعمل ضابطاً في الشرطة في كاليفورنيا، حيث خاض معركة قضائية العام 1894 ليثبت أنه أبيض البشرة، لأنه من المنطقة ذاتها حيث ولد يسوع المسيح، لتنتهي القضية بتصنيف العرب تحت بند "العرق الأبيض".

سلمتُ الأوراق لموظفة، ثم التفت لياسمين وخاطبتها بالانكليزية "يا إلهي لقد أصبح لدينا ابنة أميركية بيضاء".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها