الثلاثاء 2018/10/16

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

تيسير ثقافي

الثلاثاء 2018/10/16
تيسير ثقافي
تجهيز
increase حجم الخط decrease
من الملاحظ، منذ فترة، أن عبارة محددة بدأت تنتشر في قاموس النشاط الثقافي اللبناني، وهي وصف "مُيسِّر"، الذي غالباً ما يشير إلى الشخص الذي ينشغل بدوران الكلام في حوار أو إجراء العمل في عرض، بحيث، وفي حال توقفا، يقدم على إطلاقهما من جديد. 

طبعاً، هذه العبارة ليست جديدة، لكن الجديد هنا هو انتشارها بكثرة، والإستعاضة بها عن عبارة "مدير". ففي السابق، كانت "طاولة النقاش" تستلزم إدارة، أما اليوم، فهي تتطلب تيسيراً. بالتالي، هذا التغير الذي طاول العبارة، يطاول رجاء وجودها، أي النشاط الثقافي نفسه. فقد ولد موقع راهن فيه، وذلك بأخذ مساحة غيره، أو بالأحرى بارتفاعه فوقه.

فعندما كان النشاط الثقافي يستدعي إدارة، كان من المفترض مسبقاً في بال القيمين عليه أنه لن يستوي على انتظام، إذ إن المشاركين فيه، وعلى الأرجح، لن ينضبطوا في معاييره التي تتعلق بالتقيد بموضوعه ومواقيته وبروتوكولات تقاسمه وتداوله بين بعضهم البعض، وبينهم وبين الجمهور. لذا، لا مناص من اتقاء "تفلتهم" هذا، من خلال إدارة نشاطهم، وتوزيعهم عليه، وتوزيعه عليهم، بطريقةٍ تخمن إنصافهم. فكل منهم، وبالإستناد إلى هذه الطريقة، يحصل على حقه الذي يضمن مساواته مع أغياره في النشاط إياه: الإدلاء برأيٍّ خلال وقت محدد، من دون أن يتعرض لأي شكل من المقاطعة مثلاً. على هذا النحو، مدير النشاط هو الذي تقع على عاتقه مسؤولية تفادي "تفلت" المشاركين عبر تحقيق تعادلهم في النشاط.

في هذه الجهة، من الممكن الإستنتاج، وبسرعة، أن النشاط الثقافي، الذي يقتضي حضور مُيسِّر فيه، هو النشاط الذي لا يظن القيمون عليه سلفاً أنه سيتخلله "تفلّت". ففعل التيسير يدل على أن النشاط سائر، لكنه، وفي لحظة ما، قد لا "يفلت" من معاييره، بل ينقطع عن السير، ولهذا، دور المُيسِّر أن يعيده إلى جريانه.

هكذا، المشاركون في النشاط يلتزمون به، بمساره الذي لا ينصرفون منه. لكنهم، ومع مساهمتهم فيه، قد يتوقف على أو عند أحد منهم، أي أنه سينعقد عليه، ولهذا، لا بدّ من تيسيره، الذي يرادف فكه عن الإنعقاد، وتهوينه. فالذي ييسر نشاطاً، يجعله سهلاً على المشاركين فيه، ويحميهم من توقفه قبل أن يتركهم على تعهدهم لجريانه. بالطبع، وبما أن "تفلتهم" منه ليس محتملاً، فهذا يفيد بأنهم سواسية داخله، بحيث يحصل الكل على الحق ذاته فيه، ذلك أنهم يسيرون مع بعضهم البعض خلاله.

لقد كان المشاركون في النشاط الثقافي يتفلتون منه. واليوم، صار يلتف عليهم. في الحالة الأولى، هناك من يدير ضبطهم في معاييره. في الحالة الثانية، هناك من ييسره لكي لا يتوقف عليهم، لكي يبقي على جريانه بينهم. ما عاد النشاط موضوع تفلت. تحول إلى فاعل توقف، ليس بسبب زوال معاييره، فهذه المعايير، يلتزم المشاركون بها. بل لأنه، ومع انتفاء التفلت منه، انتفى شيء ما فيه، شيء يشكل محركه، وهو الشدة.

توقُّف النشاط، انعقاده وتعقيده، التفافه، كلها مردّها انتفاء هذه الشدة، ثم رجوعها بقسوة فيه. نشاط التيسير هو النشاط الذي التزم المشاركون في معاييره لدرجة انتفاء التفلت. وبذلك، ألغوا شدته، فألغوه بالكامل، لا سيما أن جميعهم غدوا مدراءه، فلا ضرورة لأي تثاقف بينهم فيه. مهمة التيسير، ولأنها إبعاد للنشاط عن التوقف عند أي منهم، هي إبعاد للنشاط عن إبراز واقعه، إبراز أنه بلا شدة، أنه ولد ليستمر كما هو. من المتاح تخيل هذا النشاط: جميع المشاركين يتسايرون. أما، مُسيِّره، وحين يشعر أنه يتوقف أو يتعسر، أو أن شدته تنتابه بعنف، فإنه يسارع إلى جره نحو موضوع أو استفهام آخر. وبالطبع، في حال قرر أحد هؤلاء أن ينخرط فعلياً في النشاط، قد ينظرون إليه مستنكرين "جديته". انتقل النشاط من ضبطه، من إدراته، من معيرته، إلى "تظبيطه"، تسييره، إماتة شدته، ولم يعد نشاطاً، لهذا، يسمى "حدثا ثقافياً"، علّه يتسعيد ما مات فيه!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها