الإثنين 2018/10/15

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

بول غرينغراس لـ "المدن": على أوروبا التعلّم من النروج

الإثنين 2018/10/15
بول غرينغراس لـ "المدن": على أوروبا التعلّم من النروج
مخرج فيلم "22 يوليو" عن المذبحة التي نفّذها إرهابي يميني في النروج العام 2011
increase حجم الخط decrease
في غضون أسبوعين، شاهدت فيلمين عن الهجوم الإرهابي الذي نفذّه اليميني المتطرف أندريس بريفيك، العام 2011، في مخيم للعطلات في جزيرة أوتويا النروجية. الفيلم الأول، كل ما فيه نروجي، وهو بعنوان "أوتويا 22 يوليو" للمخرج إريك بوب، صُوِّر في لقطة واحدة متواصلة بكاميرا محمولة، وعُرض في مهرجان الجونة السينمائي أواخر الشهر الماضي. والآن، تنطلق في شبكة "نتفليكس" عروض فيلم "22 يوليو" للمخرج الإنكليزي بول غرينغراس، بعد أسابيع قليلة من مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الأخير.


القصة تعود إلى 22 تموز/يوليو 2011، حين استهدف هجومان متزامنان، مقار حكومية في العاصمة النروجية أوسلو، ومخيماً لشباب حزب العمل الحاكم في جزيرة أوتويا- شمال غربي العاصمة. الانفجار خلّف 8 قتلى ودمّر مباني عديدة، لكن الخسائر الأكبر وقعت في أوتويا بعد ساعتين، حين اقتحم بريفيك - متقمصاً زي الشرطة - مخيماً صيفياً لشباب حزب العمال النروجي الحاكم، وبدأ إطلاق النار عشوائياً على المتواجدين. لمدة 72 دقيقة استخدم الإرهابي بندقيته لمطاردة 560 من المشاركين في المعسكر الصيفي. وفقط بعد 182 طلقة، أصابت الكثير من الأجساد الصغيرة، استسلم القاتل، من دون مقاومة، لقوات الأمن التي وصلت بعد فوات الأوان. 77 شخصاً راحوا ضحية الهجوم، إضافة إلى عشرات المصابين بجروح خطيرة. في النروج، تعتبر هذه الجريمة الكارثة الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.

هل من المنطقي تصوير مثل هذه المذبحة؟ وإذا كان لا بد من الأمر، كيف يجب أن تقول ذلك؟ اختار النروجي إريك بوب حلاً راديكالياً، بتثبيت كاميرته في أعقاب بطلته، الهاربة من وابل رصاص عشوائي، في لقطة موصولة تمتد ما دامت المذبحة: 72 دقيقة تجعل وضع الضحية ملموساً بشكل مباشر، لتصبح تجربة المشاهدة مزعجة ومؤلمة. لا يأتي الفيلم على ذكر اسم القاتل أبداً، يُبقي دوافعه وملامحه خارجاً. يحضر القاتل صوتياً فقط، عبر رصاصه المنهمر بغضب. لا تستند الشخصيات الأخرى في الفيلم على أشخاص حقيقيين. وبدلاً من ذلك، تأتي كنتيجة سينمائية لعملية دمج تأليفي، بعد مناقشات مع 40 شخصاً من الناجين وعائلات الضحايا.

المخرج الإنكليزي بول غرينغراس، يتخذ نهجاً مختلفاً تماماً. فيستند إلى كتاب توثيقي عن المذبحة، من تأليف الصحافية النروجية البارزة، آسني سييرستاد، بعنوان "واحد مِنّا: قصة أندريس بريفيك والمذبحة في النروج"، والذي يقدّم في المقام الأول دراسة نفسية للقاتل. يتبع الفيلم هذا المسار الذي لا يأتي عليه الفيلم النروجي نهائياً: يُظهر بريفيك كعنصري متعصب لا يعرف العاطفة أو الندم، يعترف بجريمته بفخر، معلناً أنه بفعلته يعلن حرباً مقدسة لاستعادة بلاده وتخليص القارة العجوز من المهاجرين. هجوماه الإرهابيان في أوسلو وأوتويا، لا يستغرقان سوى 30 دقيقة في الفيلم. فالمخرج الإنكليزي مهتم بما حدث بعد ذلك: كيف استطاعت الحكومة والناجون وعائلاتهم استعادة قواهم وتماسكهم؟ وفي تساؤل آخر متصل: كيف تعامل المجتمع المدني النروجي مع الوحش القاتل بريفيك من دون أن يخون قيمه.

دراما محاكم مُشيَّدة بهدوء، لا تضع الحكم القضائي المعروف في مركز اهتمامها، في حين يأتي التوتر الدرامي من صراع يخلقه الموضوع وتداعياته، من دون الوقوع في أحكام أخلاقية. مبكراً، يكشف الفيلم القاتل، حين يخبر محاميه ما ينتظره: بالنسبة إليه، الخطاب الناري الذي سيلقيه في المحكمة هو بمثابة الهجوم الثالث الذي سينفذه، فرصة لنشر أيديولوجيته العنصرية عبر وسائل الإعلام الدولية في العالم. في قلب هذا كله، رغبة عميقة لدى القاتل في سرقة الأضواء والاستئثار بالاهتمام وتحويل الانتباه. شخص واحد فقط يمكنه منع أندريس بريفيك من الانتصار في معركة الاهتمام والانتباه: فيليار هانسن، وهو أحد الناجين من أوتويا، رغم إصابته الخطيرة. لفترة طويلة، يعتبر المراهق الذكي نفسه ضعيفاً جداً للوقوف في وجه بريفيك، إلى أن يدرك كيفية تقويض تفوق الإرهابي. الأداء الشجاع لفيليار، يرسل إشارة واضحة في فيلم يحمل رسائل اجتماعية وسياسية لا تخطئها عين: لقد تمكنت القيم الليبرالية النروجية من البقاء على قيد الحياة، بعد المذبحة.

في هذه المقابلة مع "المدن" يتحدث بول غرينغراس عن فيلمه، وصعود الشعبوية اليمينية في أوروبا، وكيف يمكن لأوروبا التعامل مع الإرهاب اليميني...


- في البداية لدي سؤال بخصوص الأسلوب. مع سلسلة أفلامك المعنونة "جايسون بورن"، شكلتَ أسلوبا حركياً للغاية في سينما الأكشن: الكثير من الكاميرات المحمولة، دائماً في خضم الأشياء. في جانب آخر، فإن "22 يوليو" أكثر موضوعية وأكثر تحرراً، على النقيض من الفيلم الآخر عن أوتويا الذي أنجزه المخرج النروجي إريك بوب.

* أعلم بخصوص فيلم إريك بوب الذي لم أتمكن من رؤيته حتى الآن، لكن، على حدّ علمي، فهو لا يُظهر سوى الهجوم على معسكر الشباب في أوتويا، في حين لا نرى أندريس بريفيك نفسه. كان واضحاً بالنسبة إلي منذ البداية أن الموضوع يجب معالجته بشكل مختلف. يجب ألا يحصر فيلمي الجمهور في الزاوية. لو أتبعت أسلوبي القديم، يمكن لجماليات أفلام ثلاثية "جيسون بورن" أن تتحول هنا بسهولة إلى مأزق فني أو طريق مسدود.

- هل هذا هو السبب في أنك لم تتعاون مع فريق عملك المعتاد، المصور باري آكرويد والمونتير كريستوفر راوز؟ لقد أتقنتم معاً أسلوب "الأكشن" الخاص بك.

* رغبتُ في تجربة شيء جديد، يمنحك خصائص وخامات مختلفة. قصة حقيقية مثل "22 يوليو"، عليك إعادة روايتها. أعرضُ ثلاث وجهات نظر: الحكومة، محامي بريفيك، وعائلة أحد الضحايا، فيليار هانسن البالغ من العمر 14 عاماً. لقد شعرت بالرغبة في لعب بعض الموسيقى الأخرى (تجريب شيء جديد). بصرف النظر عن ذلك، كان مهماً بالنسبة إلي العمل مع طاقم نروجي.

- ما الذي أثار اهتمامك في شخصية أندريس بريفيك؟

* موضوع فيلمي هو كيف ردّت النروج على هذا الإرهاب اليميني. كان على البلاد فجأة أن تناضل من أجل ديموقراطيتها. بطريقة ما، فإن تاريخ النروج في العام 2011 هو أيضاً تاريخ أوروبا اليوم. يمكننا أن نتعلم الكثير من النروج.



- هل ترى بريفيك كأحد روّاد تيار الشعبوية اليمينية، والتي تتزايد في أوروبا منذ سنوات؟

* عليك فقط أن تنظر إلى البلد الأقوى اقتصادياً في أوروبا اليوم: ألمانيا. هناك التحالف اليميني الأبرز بين حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) وذراعه الأكثر تشدداً "البديل الشبابي من أجل ألمانيا"، يتخذ مواقف مضادة للديموقراطية. تمثل هذه الأحزاب، المنتشرة في أنحاء الغرب، تحدياً للمعايير الليبرالية. نحن نعلم أن هناك الإرهاب اليميني. السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نتعامل مع هذه الحركة؟ النروج دَرسٌ في المقاومة السياسية والمدنية. المحاكمة أعطت بريفيك منصة مجانية للتفوّه بكل ما يريد، لكنها مكّنت الشباب من مواجهته عاطفياً وأخلاقياً وفكرياً. سيكون من الخطر تجاهل مثل هذه المجريات.

- في مهرجان فينيسا، حيث عُرض فيلمك، كان هناك أيضاً وثائقي إيرول موريس "دارما أميركية" حول ستيف بانون. أُنتقد موريس كثيراً، لأنه منح بانون الكثير من زمن الفيلم للحديث وطرح أفكاره. هل تعتقد أنه من الفطنة أخذ مثل هذه الأيديولوجيات الفجّة والمبسّطة على محمل الجد؟

* بالطبع، هذه المسألة شغلتني أيضاً. وقد توصلت إلى استنتاج مفاده أنه يجب أن تسمع على الأقل حجج هؤلاء الناس. في الفيلم، يقول جينس ستولتنبرغ، رئيس الوزراء النروجي آنذاك، لزميل له يحادث بريفيك على الهاتف: "أخبره أنني أصغي إليه". إذا رفَضتَ وجهات نظر بريفيك حول محيطه الاجتماعي، فأنتَ ببساطة تعيش حالة إنكار. لكن الكلمات التي استخدمها في المحكمة - احتيال النخبة، والديموقراطية الوهمية، والتعددية الثقافية القسرية - وجدت منذ زمن بعيد طريقها إلى وسط المجتمع. حتى ستيف بانون لن تكون لديه مشكلة مع حجج بريفيك اليوم.

- هل تعتقد أن حركة "Alt-right" الأميركية يمكن أن تصبح متطرفة مثل بريفيك؟

* ليس بالطريقة نفسها، لكن الفكر هو نفسه. هذا ما يدور حوله "22 يوليو": لم يكن هناك شك في جُرم بريفيك. السؤال الذي كان يتعين على النروج التعامل معه، في العام 2011، وفي ظل أصعب الظروف، هو: هل ينبغي إعطاء بريفيك الفرصة للتحدث؟ إذا دافع عن نفسه، يمكنه مواصلة توجيه الخطاب العام. إنكاره حقّه في الكلام لا يفعل سوى تأكيد سرديته. حلّت المحاكمة هذه المعضلة بحِكمة. وفرت ما يشبه المنتدى لبريفيك، لكنها في الوقت نفسه خلقت وضعاً ضمن الإطار القانوني الذي يمكن فيه للناجين الشباب، أن يواجهوا المعتدي.
 



- لقد وضعوا الكثير من الثقة في الشباب.

*خُذ "بريكست" في بلدي بريطانيا كمثال. إن الخلاف حول عضوية الاتحاد الأوروبي جعل الأسئلة القديمة حول الهوية والقومية، شائعة من جديد. اليوم نعرف أن نسبة إقبال الشباب، على المشاركة في الاستفتلء، كانت الأقل بين المشاركين جميعاً. الشباب هم أشد المؤيدين للاتحاد الأوروبي. ما حدث ببساطة أنهم لم يصوّتوا. أعتقد أنهم تعلموا هذا الدرس الآن.

- هل اخترت "نتفليكس" للوصول إلى جمهور أصغر سنّاً؟

* بالطبع. ولكننا اتفقنا أيضاً مع نتفليكس على أنه سيتم عرض الفيلم في دور السينما. أنا أصوّر أفلاماً.

- فيلمك "United 93" أيضاً عن صدمة وطنية، الهجوم على مركز التجارة العالمي. كم من الوقت يجب أن يمرّ لإخبار مثل هذه القصة؟ بالنسبة إلى "United 93" كانت خمس سنوات. في "22 يوليو"، هناك سبع سنوات تفصل الحدث عن الفيلم.

* يمكن للأشخاص الذين تأثروا بالهجمات أن يجيبوا على السؤال بشكل أفضل،. فيليار هانسن، الذي شارك في التصوير، أيّد المشروع. إنه يعرف بشكل أفضل مدى الصدمة التي يخلّفها مثل هذا الهجوم. كمخرج، يجب عليك فقط أن تدرك أنه لا يمكنك أبداً إخبار القصة بأكملها. تظهر أفلام وكتب ووثائقيات وروايات ومسرحيات، والمجتمع يستخدم كل الوسائل المتاحة له، في محاولة لفهم هذه الصدمة ومعناها ونتائجها. ركّزتُ على أحد الجوانب المهمة بالنسبة إلي، وحاولت أن أكون محترماً قدر الإمكان في التعامل مع مشاعر الناس.


- مع شخصية مثل جيسون بورن، ساعدتَ في أن تبدو أفلام الحركة أكثر قلقاً، ويُداخلها ارتياب النهايات المحتومة. هل ما زالت سينما الأكشن قصة بطل في الأساس؟

* أعتقد أن أفلام الأكشن تغيِّر المجتمع. نظراً للتطورات التقنية، أصبحت الجغرافيا السياسية أكثر ديناميكية اليوم، وأقرب إلى البشر، لكنها أيضاً أكثر تزعزعاً وأكثر قلقاً. تعكس السينما هذا التسارع. ومع ذلك، أعتقد أنه من المهم التوقف وإلقاء نظرة فاحصة. كيف يتم إنتاج المعنى ولأي غرض؟

- بدأتَ حياتك المهنية كصحافي سياسي، ثم مخرج أفلام وثائقية لصالح هيئة الإذاعة البريطانية. كيف شكّلتك هذه التجربة؟

* كنت دائماً أستوحي من الواقع. في عملي، أبحث عن تعبيرات تعكس العالم من حولي. لا أريد التأثير في الرأي العام، وهذه هي وظيفة السياسة. أريد أن أروي قصة أقرب ما يمكن إلى الحقيقة. يعي الجمهور المحتوى الدعائي حين يشاهده. الفن الجيد يتحدث عن نفسه.

- ومع ذلك، اشتكى النقاد من تحدّث الممثلين النروج في فيلمك، الإنكليزية بلكنة نروجية ثقيلة. ثمة تناقض مع الأسلوب الواقعي للفيلم. هل كان هذا قراراً فنياً، كتأثير اغترابي مثلاً يخلق مسافة بين الممثلين والكلمة المنطوقة؟

*النروج مجتمع ثنائي اللغة، اعتاد الناس على التحدث باللغة الإنكليزية. كان هدفي الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور. ما حدث في النروج يؤثر أيضاً في ألمانيا والسويد والمجر وإيطاليا وإنكلترا وبالتأكيد في الولايات المتحدة الأميركية. اللغة الأجنبية من ناحية تخلق مسافة عاطفية، نعم، لكنها تعطي القصة صلاحية أشمل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها