الأحد 2018/10/14

آخر تحديث: 11:06 (بيروت)

محمد خضير... ما هو أبعد من الغفران

الأحد 2018/10/14
محمد خضير... ما هو أبعد من الغفران
increase حجم الخط decrease
وددتُ أن أتحدث في جلسة اتحاد أدباء البصرة المنعقدة لاستذكار الشاعر حكيم الجراخ (١٩٤١ - ٢٠١٨) صباح هذا اليوم عن قضية أدبية كثيراً ما أفسدتْها الأيديولوجيا السياسية وشوّهت نقاءَ تعبيرها الحقيقي. وقد ظلّ لافّ هذه القضية على رحيلٍ وتمرحل خلال عقود طويلة، كان التصارع والتناحر بين قواها وأقطابها قد أكلَ الأخضر واليابس من المواهب الغضة والبشائر الواعدة لأجيال كاملة. ولا أخفي هنا قلقي وأسفي لأني لم أفعل شيئاً لتصحيح موقفي إزاء هذه القضية في السنين الماضية. وسأشعر بغصّتها ما لم يشاركني صحبي موقفي منها.

كان الشاعر حكيم الجراخ من شريحة تربوية واسعة تتلمذنا عليها في دراستنا المتوسطة والثانوية خلال الفترة التي زامنت ثورة ١٩٥٨ وأعقبتها بسنوات. آنذاك كان المدرّسون "العضويّون" قد حدّدوا مسارَ حياتنا وأفكارنا، وأذكر منهم: محمد جواد جلال وكاظم الخليفة ومحمد جواد الموسوي ومحمود عبد الوهاب ومحمود البريكان وكاظم نعمة التميمي وسعدي يوسف وزكي الجابر، وبعض هؤلاء انتقلوا الى وظيفة الإدارة والاشراف التربوي ليمارسوا المراقبة الفكرية من مستوى أعلى من وظيفة التدريس الأولية. وبعضهم لم يبارح هذا الموقع حتى تقاعده ثم وفاته (حكيم الجراخ على سبيل المثال).

لم يكن هؤلاء الموجِّهون المباشرون ليُخفوا ميولَهم السياسية التي طبعَت ولاءاتنا خلال فترة الدراسة وبعدها بطابع التشدد والاختلاف والتمرد؛ بل إنهم شجعونا بشكل غير مباشر على الانتماء لأحزابهم. قلة من هؤلاء المدرسين ترفّعوا عن التحيز والتوجيه المباشر لشخصياتنا الغضة، بل أقل من هذه القلة (ثلاثة أو أربعة) أشفقوا على ما ستؤول اليه التبعية الفكرية التعاطفية من تدمير لمواهبنا الأدبية التي كنا على استعداد للتضحية بها مقابل الانحياز الكامل لهذا الاستاذ أو ذاك. بعد سنوات طويلة سيصعب علينا تنقية هذه الحالات التربوية، وسيؤلم وجدانَنا كوننا كنا تابعين جبناء، بالرغم من الشجاعة الظاهرية التي أبديناها في مواقف خاصة أجبرتنا عليها سلطاتُ ذلكم الوقت الجائرة. نستعيد اليوم ذكرى كلّ أستاذ نكنُّ له الاحترام ونعترف بفضله المطلق على ما سنغدو عليه في المستقبل. وأيّ مستقبل هذا الذي وجدنا أنفسنا نناطحه كجدار صلب، أو نفرّ منه فرار السليم من الجذام!


خدمتْ جيلَ الدراسة الثانوية (بين ١٩٥٨و ١٩٦٤) فرصٌ غير متوقعة، ليست الدراسة الجامعية من ممكناتها (قبل تأسيس جامعة البصرة). بعضنا اكتفى بوظيفة التعليم وآخر اختار بغداد لإكمال دراسته الجامعية. وكنت من الفئة الأولى التي رمى بها الحظ الى خدمة التعليم في الأرياف النائية مدة عشرة أعوام، استطعت خلالها محاسبة نفسي ونقل درس الشريحة التربوية العضوية الى صفوف لم تجرّب معنى الولاء الزائف، لا لأنها دون سن الوعي بذلك، إنما لأني أردتُ تقويم تجربتي الدراسية السابقة بعكس مضمونها وعضويتها على تلاميذها الصغار.. ولكن بعد تأمل طويل ساعدتني على تعميقه الطبيعة العذراء للأرياف: شروق الشمس خلال قصب الأهوار، وغروبها وراء حظائر الحيوانات العائدة مع آخر خيط من النهار. ومن لم يعش طبيعة السكن هناك لن يعرف رهبة الصمت التي تحلّ مع الليل، حيث لا يُسمع غير نباح الكلاب وصرير الجداجد في الحقول. هناك تستطيع نزع الكبرياء الشخصية والعقلية والغاء فكرة التمايز الاجتماعي والفكري.. إنْ كنتَ تمتلك ذرة من ملَكة الإبداع فلا تستخدمها باتجاه واحد. أبدِعْ لا لتقتل أحداً (فعلياً ومجازياً) بل لتُحيي نفساً من بين أنفس عديدة. كن طليقاً ورحباً كسماء الأهوار (وقت لم يكن البحر من مفرداتنا) او كسكة الحديد التي كنا نجهل امتدادها بين القصبات والمدن والعزلات البرية التي لا نهاية لتصورها.. بعد هذا من يتذكر المدرّسين العضويين ويحشرهم في صورة واحدة؟ بل من يتهاون في طلب الغفران لهم منا؟ لقد صنعونا لأنفسهم، على صورتهم أنفسهم، ولم يمنحونا فكرةَ التغاير والانفكاك من سجن أفكارهم المدمرة. كنا سنفهمهم أكثر، ما دام بعضهم مبدعاً كبيراً (شاعراً رائداً وقاصاً مجيداً ولغوياً بارعا) ونغفر لهم سطوتهم!


نستطيع أن ننتمي للحس الغنائي الصافي لقصائد حكيم الجراخ، كما الحال اليوم - بعد تجارب من توسيع زوايا رؤيتنا، وسنوات طويلة من مقاساة تبعيتنا الفكرية، وتبصّرنا بسخف انحيازنا العاطفي والحزبي- لأننا أصبحنا على مبعدة من ذلك الدرس "الثانوي" وعلى مقربة من درس الغفران "العالي" - كلّ بجهده وعرق ضميره - هذا الغفران الذي طال انتظاره لكي نمنحه لشريحة المدرسين الأولى بعد غيابهم.
على هذا الوجه، سنبرئ دعاءنا للشاعر الراحل حكيم الجراخ بالمغفرة والرضوان من منّةٍ كانت ستنغّص علينا جلستَه التذكارية الحميمة!

(*) مدونة كتبها القاص العراقي محمد خضير بمناسبة تأبين الشاعر حكيم الجراخ ونشرها في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها