السبت 2018/10/13

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

عودة المعتزلين.. إهانة للفن!

السبت 2018/10/13
increase حجم الخط decrease
تأتي عودة بعض الفنانين إلى العمل، بعد سنوات من الاعتزال والاحتجاب، لتؤكد صحة قرارهم الأول بالتوقف، حيث يتكشف أنه كان الاختيار الملائم في التوقيت المناسب، بل كان خطوة إيجابية في طريق الفن. إذ يمثل نقض هذا القرار، بالرجوع المفاجئ إلى دائرة الضوء، انتقاصًا من رصيد الفنان السابق، وتعديًا على سيرته الفنية وصورته الناصعة المحفورة في قلوب محبيه.


مع كل ظهور باهت لأحد هؤلاء الغائبين في قوتهم، العائدين في ضعفهم، تجدد هذه الأعمال البائسة والأدوار المحبطة استحضار الواقعة الأسوأ في هذا المضمار، وهي عودة المطربة نجاة الصغيرة، العام الماضي، بعد سنوات من التوقف، بأغنية جديدة في الكلمات واللحن والأداء، مع استخدام الحيل الساذجة وتقنيات الخداع البصري لخلق نجاة أخرى تتحرك وتتمشى وتبتسم وهي تغني.


جاءت أغنية "كل الكلام" لنجاة الصغيرة من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان طلال وتوزيع يحيى الموجي، لتشكل الإساءة الكاملة للفنانة أو الجريمة مكتملة الأركان التي شاهدها، بفضل الدعاية الأسطورية، واستغلال اسم نجاة العائدة، أكثر من مليون متابع في "يوتيوب". وعبّر كثر منهم عن صدمتهم في المحتوى المتواضع المكرور من حيث الكلمات والجمل الموسيقية والإيقاعات، وإن كان ذلك لا ينفي كون الصوت الخام لنجاة ما زال قماشة غضة نابضة، فائقة الحساسية، قد تكون صالحة للاشتغال الواعي بأصابع سحرية.

أما الرؤية الإخراجية لهاني لاشين، فهي التي قضت تمامًا على أي فرصة لتمرير الأغنية، إذ قطعت الشك باليقين بأن هذا العمل ملفق (fake). فلا هذه نجاة، ولا هي الصغيرة، ولا البحر الذي في الخلفية بحر، ولا حاضر أو مستقبل في أغنية "كل الكلام" المنتمية كليةً إلى الماضي، صوتًا وصورة وإحساسًا وطقوسًا.


المدهش أن الاستسهال، بلغ مداه في صناعة هذا العمل الركيك، لدرجة أنه تم استدعاء التصوير السينمائي (كاملًا كما هو) لأغنية سابقة لنجاة هي "ليلة من الليالي فاتونا"، من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي، لتتلخص الرؤية الإخراجية المنسوبة إلى اسم المخرج المعروف هاني لاشين، في تغيير الخلفية على نحو بدائي فج، ليتجاور البحر الكاذب غير المقنع، مع حركة شفتي نجاة التي لا تتسق مع كلمات الأغنية الجديدة، بل وتكاد تنطق بكلمات "ليلة من الليالي فاتونا"، التي حققت أكثر من 7 ملايين مشاهدة في "يوتيوب".


ومن الفنانين العائدين خلال السنوات الأخيرة، بعد طول احتجاب، بوجوه بلاستيكية جامدة أو على الأقل ليست بالمستوى المأمول: محسن محيي الدين، لبنى عبد العزيز، محمد رياض، أحمد عبد العزيز، ومن قبلهم حسن يوسف، أحمد رمزي، وآخرون، ممن لو ظلوا قابعين خلف صورهم القديمة، لربما كان أفضل لهم من أدوار ثانوية وهامشية خلخلت حضورهم المستقر في الأذهان.

حظي محسن محيي الدين (60 عامًا) بامتياز، بلقب طفل يوسف شاهين المدلل، إذ أطلق قدراته التمثيلية الخاصة بإسناد أدوار البطولة إليه مباشرة عقب تخرجه في قسم الإخراج بمعهد السينما، وشهدت حقبة الثمانينيات نجومية استثنائية لبطل أفلام "إسكندرية.. ليه؟"، "حدوتة مصرية"، "وداعًا بونابارت"، "اليوم السادس"، فهو صاحب الأداء التلقائي الطفولي، والخفة الحركية، والوجه المصري الصميم المعبّر.

تزوج محسن محيي الدين من الفنانة نسرين، وقدما معًا فيلمًا من إخراجه في العام 1990 بعنوان "شباب على كف عفريت"، وبعده أعلنا معًا اعتزال الفن لأسباب تتعلق بـ"الالتزام الديني"، وظلت زوجته باقية على عهدها إلى يومنا هذا. إلا أن محسن محيي الدين قرر العودة إلى التمثيل بعد قرابة ربع قرن من الاعتزال، فشارك في مسلسلي "المرافعة" و"فرق توقيت"، وجسد في الأخير دور والد المطرب تامر حسني.

يربط محسن محيي الدين عودته إلى الفن برغبته في تقديم "أدوار هادفة وملتزمة اجتماعيًّا وأخلاقيًّا"، وهو مبرر جعل هذه العودة برمتها خارج دائرة الفن أساسًا، فكأنما هو يرى ذاته داعية أو خطيبًا أو تربويًّا، عليه أن يقول "كلامًا حسنًا"، وليس مهمًّا كيف يمثّل. وهذا ما يتجلى بوضوح في المسرحية التي يشارك فيها حالياً بعنوان "كينغ كونغ" في مسرح البالون بالقاهرة.

تجسد المسرحية، التي كتبها سليم كتشنر وأخرجها محمد حسن، ويلعب بطولتها المطرب نادر أبو الليف، صراعًا صريحًا بين فريقي الخير والشر في بلد عجائبي يحاول النهوض بعدما دمره بركان عظيم، ولكل فريق مركز ثقل وأنصار وأتباع.


يمثل محسن محيي الدين في هذا العرض، شخصية "حكيم" قائد فريق الخير، وهو مجرد واعظ ينطق "من وضعية الثبات" بالحكم والأمثال للنصح والإرشاد والحض على مكارم الأخلاق والإخلاص للوطن وما نحو ذلك، ولا تحمل الشخصية أي عنصر من عناصر الأداء المسرحي، فضلًا عن أن نبرات محيي الدين الصوتية الرفيعة بعيدة كل البعد من خصائص الشخصية الجهورية.

ويشترك الغائبان العائدان، محمد رياض وأحمد عبد العزيز، في أن اختفاءهما سنوات طويلة لم يكن اعتزالًا صريحًا بقدر ما كان انزواء استراتيجيًّا لعدم وجود دور مناسب، وهو أمر جيد ومفهوم لو أنهما ظلا ملتزمين به. لكن الذي حدث، أن الدور المناسب لم يأتِ حتى الآن، والتي جاءت هي عودتهما إلى الفن في ظهور مجاني غير مشبع ولا مقنع.

يُصنف رياض وعبد العزيز كنجمين من نجوم التلفزيون، خصوصًا خلال حقبة التسعينيات، التي اقترنت فيها نجوميتهما بمرحلة الشباب التي مثلا رونقها وجديتها وخفتها، بمقومات مستمدة من شخصيتيهما الحقيقيتين، لا من إمكانات تمثيلية فريدة. وبديهي أن يخفت الرونق تدريجيًّا مع تقدم العمر في ظل عدم التطور الأدائي.

عاد محمد رياض مؤخرًا في مسلسلات عديدة، منها "لعبة إبليس"، "كفر دلهاب"، "رحيم"، وعاد أحمد عبد العزيز في مسلسلات "حق ميت"، "أريد رجلًا"، "الأب الروحي"، وغيرها. وبانطفاء جذوة العينين ونضارة الإطلالة الحيوية، لا يكاد يتبقى من الحضور الفعلي للنجمين ما هو أبعد من التجسيد الصوتي "الإذاعي" للشخصيات، بما فيه من فخامة وتضخيم، من أجل مواراة انزواء مهارات التقمص.


الأمر ذاته ينطبق على العائدين من جيل أسبق، ومنهم حسن يوسف، ولبنى عبد العزيز، والراحل أحمد رمزي، وهم يشتركون في ارتياد الفن من باب الهواية، إذ لا تمكنهم إمكاناتهم الطبيعية والتأهيلية من أداء أدوار مختلفة وفق المعايير الاحترافية، إنما كادوا ينحصرون في أنماط محدودة للغاية تقارب حضورهم الحياتي "اللطيف" في مرحلة الشباب كبشر من لحم ودم.

الطريف، أن بعض أدوار هؤلاء العائدين شكّل هدراً للبعد الزمني والتصاعد الدرامي على نحو مثير، كما في ظهور أحمد رمزي "العجوز" بأزرار القميص المفتوحة والابتسامة العريضة وهو يتحدث عن إصابته بمرض عضال في عمل تراجيدي. وكما في مشاركة "الشيخ حسن يوسف" في مسلسل "زهرة وأزواجها الخمسة"، المبني على صراعات الرجل والمرأة وكوميديا المواقف، رغم أنه ذكر بشكل واضح أن عودته للتمثيل مشروطة بأدوار توجيهية وإصلاحية.

عودة المعتزلين إلى مجال الفن، هي باختصار إهانة للفن في بعض الأحيان، وقرار عشوائي لأسباب تبدو شخصية أو تجارية، أو للإيمان بأن "الرسالة الهادفة" بإمكانها أن تكون بديلًا عن الفن أو بابًا للتكسب ووجهًا من وجوه الحضور من خلال ترديد عبارات مثالية "نظيفة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها