الجمعة 2018/10/12

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

فتاة بانكسي.. هل يُهزم السوق؟

الجمعة 2018/10/12
فتاة بانكسي.. هل يُهزم السوق؟
تلف اللوحة زاد سعرها.. والشارية متمسكة باقتنائها
increase حجم الخط decrease
في نهاية الأسبوع الأول من معرض "فريز" الفني، وسلسلة من المبيعات القياسية في قاعات المزادات اللندنية، لم يكن متوقعاً أن يجتذب بيع لوحة "فتاة البالون" أي اهتمام. فلا أحد في عالم الفن الاحترافي يأخذ "بانكسي" على محمل الجد. صحيح أن الجمهور البريطاني صوّت، العام الماضي، للوحته تلك تحديداً، الفتاة الممسكة بالبالون الأحمر، بوصفها الأيقونة الأكثر جماهيرية، إلا أن تقييمها قبل المزاد لم يتجاوز 300 ألف إسترليني. ويبدو هذا مبلغاً متواضعاً جداً، خصوصاً خلال الأسبوع الذي كانت لندن تحتفل فيه ببيع لوحة للفنانة جني سافيل، بمبلغ 12.4 مليون إسترليني، لتصبح الفنانة الأغلى على قيد الحياة.

لا أحد يأخذ بانكسي على محمل الجد، فعلًا. فبين مقتنيات متحف الفن الحديث في لندن، أو أي من المتاحف الكبرى حول العالم، لا نجد عملاً واحداً له. المرة الوحيدة التي عرض فيها المتحف البريطاني عملاً لبانكسي، كانت قبل 13 عاماً، وكان هذا "مقلَباً" منه، حين ترك في إحدى قاعات المتحف، قطعة صغيرة من الحجر، وعليها رسم لرجل من العصر الحجري يدفع عربة سوبر ماركت. 


كان بيع لوحة "فتاة البالون"، يوم الجمعة الماضي، بـ1,04 مليون إسترليني، أي ثلاثة أضعاف تقييمها المبدئي، مفاجأة صغيرة. صفق الحضور في قاعة "سوذبي" بعد إتمام المزايدة عليها، كالعادة. لكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق. تحول مشهد اللوحة وهي تخرج من إطارها ممزقة، إلى اللحظة الأهم في موسم المبيعات الفنية لشهر أكتوبر هذا العام. أو كما ذهبت جريدة "الغارديان"، تحول إلى "تحفة من الأداء الراديكالي" و"العمل الأهم لبانكسي".


ليلتها، تابع المضاربون موقع "سوذبي" الالكتروني، لحظة بلحظة. فاللوحة لم يتم تأكيد بيعها، وطبقاً للقواعد، كان من حق الشارية أن ترفض الصفقة، طالما لحق بالعمل الفني تلف، بعد المزاد. في الصباح، أكدت قاعة "سوذبي" إتمام البيع، فتراجُع الشارية كان ليشكل ضرباً من الجنون. فبحسب الخبراء المثمِّنين، فإن عملية تمزيق اللوحة ذاتياً، أضافت إلى سعرها حوالى نصف مليون إسترليني. وتناقلت وسائل الإعلام تقييم المضارب الفني، جوي سيير، بأن العرض الراديكالي كان قد رفع ثمن اللوحة إلى الضعف على الأقل. ولاحقاً، صرحت المالكة الجديدة للوحة بأنها تقتني الآن "جزءاً من تاريخ الفن، فبانكسي لم يدمر عملاً فنياً، بل صنع عملاً فنياً".

كان "مقلب" بانكسي، أو "مزحته" كما أطلقت عليها الصحف البريطانية، موقفاً ضد تسليع الفن، واحتجاجاً ضد تحويله وعاءً استثمارياً أو موضوعاً للمضاربة. فالفنان الإنكليزي مجهول الهوية، والمعروف بأعماله الغرافيتية في الأماكن العامة، يلتزم بمفهوم مشاعي للفن، مجاني، مفتوح على العام، وذي مضمون ودور سياسي صريح ومباشر. إلا أن الكثير من المعلقين والنقاد لم يروا في عملية التدمير الذاتي تلك، سوى حملة للدعاية والتسويق، وطريقة أخرى من طرق بانكسي للفت الانتباه. بل ولجأ البعض إلى نظرية المؤامرة، مشككاً في معرفة إدارة قاعة "سوذبي" المسبقة، بوجود آلة التمزيق داخل اللوحة، ملمّحين إلى أن كل شيء تم بالاتفاق -ولو ضمنياً- بين الإدارة والفنان نفسه الذي عاد وبث فيديو في "يوتيوب" يظهر كيف أنه، قبل سنوات، زرع آلة تمزيق داخل لوحته تحسباً لعرضها في مزاد.


وبعيداً من نظريات المؤامرة تلك، كتب الناقد الفني جونسان جونس، في "الغارديان"، معلّقاً على الأمر: "رأس المال يخنق الفن... ولم يعد أمام الفنانين سوى أن يدمروا أعمالهم"، أو كما قال في موضع آخر من مقالته "أن يعضوا اليد التي تطعمهم". لكن إلى أين تقودنا تلك الاحتجاجات الفنية ضد المؤسسة. فالرأسمالية، في إخلاصها لقيمها البارغماتية إلى أقصى حد، لطالما تسامحت مع معارضيها، واحتفت بلحظات تمردهم، بل وخلّدتها، وحولتها موضوعاً لتحقيق مزيد من الربح، وتسريع دورة فائض القيمة، ووسعت أسواقها بطرح بدائل ترضي أذواقاً متنوعة ومتنافرة في الوقت نفسه.

فحين وضع مارسيل دوشان، مبولته الشهيرة للعرض، في العقد الثاني من القرن الماضي، معترضاً على تفاهة المؤسسة الفنية، ليهجر بعدها الفنون بالكامل ويتفرغ للعب الشطرنج، أضحت تلك المبولة/النافورة، نقطة تأسيس لفن "ضد الفن"، في التأريخ الجمالي، وتبناها الأكاديميون واحتفت بها المتاحف وصالات المزادات كفلسفة جمالية جديدة لـ"الفن الجاهز". حولت المؤسسة احتقار دوشان لها إلى احتفالية كبرى، ومادة للتفلسف والتسليع أيضاً.

ولم يختلف الأمر كثيراً حين عبأ الفنان الإيطالي، بييرو مانزوني، فضلاته في علب من الصفيح، مطلع الستينات، وأطلق عليها "خراء الفنان" بلا مواد حافظة، في اعتراض على تسليع الفن والجسد والهوس بالعبقرية الفردية. فقد  وجد من يشتري منه فضلاته، بل وبادلها بذهب خالص. أما متحف الفن الحديث في لندن، فيعرض واحدة من تلك العبوات بكل فخر.

والفنان البريطاني مايكل لندي، الذي حطم كل ما يملكه من مقتنيات شخصية وأعمال فنية تخصه أو تخص غيره، في عرضه "انهيار" العام 2001، خرج من القاعة وهو لا يملك شيئاً على الإطلاق. لكن عمله ذاك، والذي نُظر له كاحتجاج على الملكية الخاصة وفيتشية السلعة، ضمن لها شهرة استثنائية. وبعد سبع سنوات فقط، نال الفنان الذي كان مجهولاً، عضوية أكاديمية الفنون الملكية، ليتربع على قمة المؤسسة الفنية، وفي واحدة من أكثر هيئاتها محافظة. فكما سيذهب البعض بالتأكيد، يبدو الاحتجاج، أسرع طريقة للولوج إلى المؤسسة، والقفز على درجات هرمها.

مجدداً، يثبت رأس المال مرونته، وتؤكد المؤسسة سعة صدرها. الاحتجاج يجدد دماء المنظومة، ويعيد الحيوية إلى دورة التسليع ومنتجات التسلية. سيرتفع ثمن "فتاة البالون" مرات ومرات، وسيحتفى الخبراء المثمِّنين والوسطاء، بنِسَبهم من الصفقات المتتابعة، وستجد اللوحة طريقها إلى أحد المتاحف الكبرى، والأرجح أنها ستعرض هكذا ممزقة، بلا ترميم، لتأكيد "أصالتها". وستضاف الواقعة إلى مناهج علم الجمال وتاريخ الفن، وربما يبدأ البعض في أخذ "بانكسي" على محمل الجد.

لكن هذا كله لا يقلل من شأن الاحتجاج الفني، فالفن لا يفترض به هزيمة السوق، وليس مطلوباً من الفنانين الالتحاق بخلايا فوضوية لخطف مديري البنوك. يبدو فن الاحتجاج، في تواضع واقعي، معنياً بأن يكون مثالاً للرفض، عرضاً للهجاء، أداة للتعبير الرمزي عن الغضب، وسيلة لإثارة التساؤلات حيناً، وإشاعة الاشمئزاز حيناً آخر. لا أقل ولا أكثر من هذا، يمكن أن يطلب من الفن، أو يُنتظر من فنانيه. أما هزيمة السوق، فساحاتها في أماكن أخرى. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها