الإثنين 2018/01/29

آخر تحديث: 11:50 (بيروت)

قُبح الثورات الجميلة!

الإثنين 2018/01/29
قُبح الثورات الجميلة!
الصحافية لارا لوغان التي تعرضت للتحرش في ميدان التحرير
increase حجم الخط decrease
تمر هذه الأيام ذكرى الثورة المصرية التي انطلقت العام 2011 والمعروفة بثورة 25يناير، وفي كل عام يستذكر المصريون والعالم هذه الذكرى لما كان لها الأثر المباشر في غالبية من تابع الحدث عن كثب. رغم أن ما سُمي بالحراك العربي بدأ من تونس، لكن كان للثورة المصرية الأثر الشعبي الأكبر في المتابعين حول العالم لمجريات الأحداث. قبل الثورة التونسية لم نكن نعلم الكثير عما يحدث داخل تونس. إذ إنها كانت دوماً في ذاكرتنا وحاضرنا مثالاً للدولة المتقدمة والسابقة لزمنها، مقارنة بدول المنطقة، لأنها كانت سبّاقة دوماً لإبهارنا في تعديل القوانين المجحفة في حق الحريات وحقوق الإنسان، المرأة خاصة.


قبل "شرارة" الثورة التونسية لم يكن العالم العربي يتخيل أنه يمرُ فعلياً بفكرة التحرر ويعيشها في الشوارع بعيداً من شبح الخوف المخيم على الشعوب منذ عقود. وهكذا كانت الانطلاقة "الرومانسية"، بكل عنفها وحزنها وخساراتها وانتصاراتها الصغيرة والكبيرة، لثورات جميلة كان لا بدّ منها وما زالت لا بدّ منها. لكن هذه "الرومانسية" لم تدم طويلاً، ليس بسبب قمع السلطات الحاكمة آنذاك وليس بسبب استهلاك عبوات الغاز المسيل للدموع بتكلفة ملايين الدولارات، وليس لأن الشوارع تخضبت بدماء الشهداء الأبرياء، فهذه أقل الأثمان المتوقعة تدفعها الثورات الشعبية المنطلقة من إيمان خالص في التغيير. لكن الإحباط بدأ عندما أخذ الشارع منحى آخر لم يكن في الحسبان، جعل الكثير منّا يلتزم الصمت والحياد حياله، لأن البعيد من أرض الواقع لا تكفيه المتابعة، مهما كانت خالصة وجادة، كي يستطيع الحكم. كاد الحماس يأكلنا في بعض المستويات. يأكلنا، إذ صار لنا، نحن الذين ولدنا ونشأنا في عالم عربي رث، آمال كبيرة لم نكن نتخيل أن "نتخيلها" يوماً. في كل لحظة انتصار لشباب وناس الثورة في اسقاط نظام، كانت تنهضُ أحلام تم ردمها باليأس والقنوط من إصلاح البلاد. صار كلّ منّا، نحن المواطنين العرب، مهما كنا بعيدين، يتمنى أن يحصل هذا في بلدهِ ويتذوق طعم الحرية الحقيقية أخيراً بدلاً من القراءة عنها والحلم بها. لكن شيئاً من هذا لم يحدث! كان إحساساً غريباً لا يسهل وصفه، خليط من الخوف والرعب والترقب والعيش في حالة انكار خشية أن نفقد نشوى انتصار الثورة. هذه المرة ليس بسبب الحكام، بل بسبب صور الشارع التي صارت تتوارد إلينا.



بعد تنحي مبارك، وهي النتيجة الأعظم لثورة يناير ولهذا هي ثورة وستبقى كذلك، بدأ القلق من نتائج هذا التغيير يزداد مع تزايد الانتهاكات في الشارع. لم تقتصر الانتهاكات على الأجهزة الأمنية للدولة ولا على "بلطجية" النظام ورؤوس الأموال والأحزاب ذوي العلاقة بنظام مبارك، بل تجاوزته إلى وحشية أفراد وجدوا في فوضى الشوارع ملاذهم ووكرهم الذي تعودوا أن يلجأوا إليه لممارسة أمراضهم النفسية تجاه الآخرين. ومنها ظواهر التحرش التي وصل بعضها إلى حد الاغتصاب وهتك "عرض" بالمعنى المادي وليس المعنوي فقط. لم تكن اشاعات ولا تضخيم صورة ربما تكون صغيرة وعابرة، بل كانت حوادث مصورة لا تقبل الخطأ في تفسيرها وفهمها. وهذا الانتهاك لم يقتصر على النساء من الجمهور المصري المشارك في الاحتجاجات، بل تعداه إلى الاعتداء على صحافيات ومراسلات أجنبيات كتبن وتحدثن عن تجربتهن المريرة في ميدان التحرير، مثل الصحافية والمراسلة لارا لوغان  في قناة CBS، والصحافية البريطانية ناتاشا سميث وأخريات.

عند توارد هذه الأخبار والأفلام والصور عن حالة "السعار الجنسي"، خفّ حماس الكثير من بين داعمي الثورة في أوروبا، وصار التركيز على مدى واقعية وحقيقة المعلومات التي تابعوها عن "الثورة" منذ البداية. رغم شجب لعدد من نشطاء الثورة، وشخصياتها الظاهرة وقتها، وصل الأمر بالبعض أن شكلوا لجان حماية وتفتيش، لكن هذا لم يغير من واقع أن الثورة الجميلة صار لها وجه "قبيح" في نظر الآخر.

بخلاف الثورة التونسية والمصرية، لم يحتج الحراك في ليبيا، وقتاً طويلاً، للكشف عن جانب من القبح، ولا مر الحراك بمراحل متابعة أو توقعات، إذ إن معالم هذا الحراك كانت أوضح وأصفى بكثير من أن بحدث عندنا لبساً في أغراضه. فقد تحولت ليبيا في ليلة وضحاها إلى فيلم رعب، وصل الأمر فيه أن نشاهد الاغتصاب بالعصا لـ"أسير." ومرت "الثورة الليبية" من دون أن نشعر أنها كانت ثورة في لحظة ما. وإذا ما بدأنا تتبع "الوجه القبيح" للثورة السورية فسندخل في متاهة لا أظن أننا سنخرج منها. وهذا في حد ذاته أمر حزين ومؤسف جداً، لأن النظام السوري من أكثر الأنظمة التي تستحق أن تقوم ضدها عشرات الثورات، لا ثورة واحدة، وكان يجب أن يسقط منذ صرخة الاحتجاج الأولى.

بسبب القرب الجغرافي والثقافي بين العراق وسوريا، كان سهلاً علينا كعراقيين، أن نستشف ما سيحدث عندما انطلقت الاحتجاجات السلمية في دمشق. إذ إن الأنظمة البعثية الشمولية، وإن اختلفت في ما بينها، تمارس السياسة القمعية ذاتها. ومن عاش تحت حكم صدام وسلطة البعث، سيتفهم جيداً دوافع الكثير من السوريين "لإشعال" هذه الثورة. لكن الأمر لم ينج من فخ الكراهية العمياء والاندفاع الأهوج والانتقامات المتبادلة التي لم تتوقف إلى يومنا هذا، في غياب برامج وخطط توازي "مقاومة" النظام من أجل البقاء في كرسي السلطة. لقد تحولت شعارات وأغاني الحرية إلى وخز مؤلم، إذ كيف استحال بلد خرج طلباً للحرية، إلى أوصال مقطعة يأكل بعضها البعض! وتلك الشعارات صارت تذكرنا، نحن العراقيين، عندما خرج جمع من الناس في "انتفاضة" ضد نظام صدام قبل أن تضع حرب الخليج أوزارها في 1991، رغم ما خلّفته الانتفاضة "الطارئة" من خراب وخسارات في الأرواح في الطرفين والبنية والتحتية، وجاءت مكملة لما بدأته حرب الخليج، لكن كان لا بد منها، لندرك أن في إمكان الإنسان العربي ألا يخاف، ولو لمرة واحدة في حياته، وأن الانتفاضات والثورات لها وجوهها القبيحة كما الجميلة.

وتبقى فكرة أن الثورة مستمرة، فكرة، لا بدّ منها كي لا نموت أحياء. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها