الأحد 2018/01/28

آخر تحديث: 09:37 (بيروت)

محو نثار الثورة!

الأحد 2018/01/28
محو نثار الثورة!
ميدان التحرير في مصر (Getty)
increase حجم الخط decrease
في يناير نتذكر الثورة.. الأدق نتابع تطوراتها.
بعد سبع سنوات تحولت لـ"ربيع عبري"، لمؤامرة كونية، للحظة شيطانية، سبع سنوات فقط حولت اللحظة الأنصع في التاريخ المصري الحديث لذكرى باهتة ممقوتة ومشيطنة! فماذا سيحدث في الذكرى السبعين؟!

عمليا لا يمكن الرهان على شيء، لا تفيد التحليلات الآنية ولا التوقعات المستقبلية، كل الاحتمالات واردة، الثورة نفسها كانت لحظة غير متوقعة، كل ما نملكه فقط هو تأمل ما جرى، ما شاهدناه، ونشاهده، وأن نضمن أيضا وصول رؤيتنا لمن أراد أن يؤرخ، ويفكر ويتدبر في ما حدث، ربما تعود الأمور إلى نصابها الصحيح في يوم ما.

لكن ما الذي نملكه؟ كتب، وقصاصات، وصور، وأوراق، ومدونات، وفيديوهات كلها تحمل جزءاً من حكاية عن ثورة كبيرة جرت في مصر مطلع العام 2011. شخصياً، الأوراق والصور والشهادات التي أملكها لم تجلب لي سوى الأسى، ثم المزيد من اللامبالاة، وبعض السخرية من فكرة الأمل المتفجر من كل سطور الحكايات والشهادات.

الكتب التي في حوزتي جميعها تدور في الفلك نفسه تقريباً، وجهة النظر الأخرى غير موجودة، ليس فقط لأنني أمقتها، ولا لأننا نعيشها، ولكن ربما لأنها لم تدوّن أصلا في كتب بعد، وإن كانت تملأ الشاشات والإذاعات، هل هو الخوف من الكتاب، من التأريخ، من تدوين تاريخ كاذب؟ّ! لكن ما هو التاريخ وما هو الكذب؟ المصطلحات تداخلت والارتباك يسيطر على كل شيء.

استيقظنا صبيحة أحد الأيام وقد حذف جزء هائل من أرشيف الثورة من إحدى الجرائد الكبرى التي كانت شاهدة على ما جرى، حتى الآن لا نعرف كيف حدث ذلك، تكرر الأمر في غيرها، دون سبب واضح أيضا، الآن تعد القوانين للتحكم في المحتوى المبثوث عبر الانترنت، وحتى قبل صدور تلك القوانين فعليا، جرى ويجرى التدخل مرات ومرات بالحجب والتضييق والاختراق اليومي، بعد أن تم التحكم في ما يبث عبر الشاشات، تفقد الثورة يومياً جزءاً كبيرا من تاريخها المدون لصالح المحكي، لصالح وجهة النظر التي تشيطنها، بعد سنوات قليلة لن يبقى غيرها، لن تعرف الأجيال الجديدة ما جرى فعلا، إن كنا نحن من عاصرنا الحدث نكذب أعيننا، فماذا سيقول أولادنا؟!

الخوف الأكبر أننا ربما لا نتمكن حتى من ترك ما يبنى عليه، ما يمكن أن يتم التفكير فيه، أفكر في أن كل ما أملكه من كتب وصور وحكايات لا تكفي لأن تبني ابنتي وجهة نظر واضحة حول ما جرى.

والأهم أنه حتى ما نملكه لا يصلح أصلا كمصادر أوليه لكتابة تاريخ أو جهة نظر، كثيرون قالوا ذلك وأكدوه، آخرهم فاتح رجب، أستاذ التاريخ في جامعة الزاوية الليبية، ودونه في بحث مهم بعنوان "التأريخ للأحداث المعاصرة من خلال المذكرات والشهادات الشخصية"، وعبد العزيز الطاهري في بحث آخر عن "الشاهد والمؤرخ في المغرب: صراع أم تكامل" وكلاهما نشر في العدد الأخير من دورية "أسطور".

يرى الأول إن محاولة الاستفادة من هذه المصادر تتطلب على أقل تقدير سلسلة طويلة ومعقدة من المطالعات المصاحبة، والسير الذاتية والمهنية للشهود ومعاصريهم، ومعرفة مكثفة بطبيعة العلاقات القائمة بين الشاهد والمرحلة التي يدلى بشهادته فيها، قبل الانخراط في دراسة منهجية لمحتواها، تخضع خلالها المذكرات والشهادات لما أسماه "النقد الداخلي" بوصفه نقطة لبداية تقييم المحتوى والكشف عن مدى التطابق بينها "وهل للشاهد أكثر من شهادة أو مواقف سياسية أو أيديولوجية مسبقة أثرت في شهادته ورؤيته للأحداث التي عاصرها أو شارك فيها؟ والفارق الزمني لتلك المشاركة، وزمن الإدلاء بالمذكرات أو الشهادات".

وما أكثر ما جرى من تغيرات في المواقف والرؤى خلال الأعوام القليلة الماضية، وهو ما يعزز ما خلصت إليه الدراسة من أن إمكانية توظيف المذكرات والشهادات في عملية التأريخ أمراً لا يبعث كثيراً من الأمل بالنسبة للباحثين عن الحقيقة التاريخية.

في حين ترى الدراسة الثانية أن الشهادة مجرد أمر أولي قد يعتمد عليها المؤرخ لكن من مسافة، فهي ليست أمرا تاريخيا بمعناه المهني الأكاديمي، بل يمكن إدراجها ضمن السيرة الذاتية والذاكرة والأدب والكتابة التاريخية "الهاوية"!

أقرأ الدراستين وأسأل نفسي كيف لا تصلح "كراسة التحرير" مثلا التي دونها الكاتب الذي فارقنا منذ أيام مكاوي سعيد مصدرا للتأريخ؟ أين تذهب إذا كل تلك الحكايات، والتفاصيل والرؤى والشخصيات التي دونها وحكى عنها برهافة بالغة، كيف لا تصلح وصاحبها رأى بعينه ودوّن بقلبه تفاصيل ما جرى، كان واحدا ممن رأوا هذه اللحظة الفارقة وعاينوا أحداثها ودونوا وقائعها، في أي تصنيف إذا نضع حكاياته عن كمال خليل، وبيير سيوفي، وعم عبد التواب، وأحمد لطفي، عن الشهداء الذين سقطوا أمام عينيه، عن خطط التحرير، والمستشفى الميداني، وموقعة الجمل، عن دور الجماد في الثورة، وحكاية أصغر شهدائها الذي اختنق من الغاز في خضم أحداث شارع محمد محمود، ولم يكن عمره قد تجاوز شهرا واحدا.

عشرات الشهادات التي جمعها هشام قشطة في "الكتابة الأخرى"، كيف لا تصلح للتأريخ وكتابها جميعا ربما كتبوا مقالاتهم على أرصفة الميدان؟

وماذا عن مئات الشهادات الأخرى التي لم تجمع في كتب، عن القصاصات التي تملأ أدراجنا، والصور والفيديوهات على حواسيبنا.. هل يمكن تجاهل هذا كله؟

الدراسات تحاول الإجابة على السؤال في إطار بحثها في سؤال أكبر عن التأريخ للأحداث القريبة والحالية. صحيح أنها طبقت على الحالة الليبية والمغربية لكن المتتبع للتفاصيل سيجد أنها في النهاية متشابهة، بل متطابقة مع حال كثير من الدول التي شهدت الثورات منذ 2011، فكلاهما تسأل عن إمكانية كتابة تاريخ الزمن الراهن، ويرد هذا التساؤل إلى صعوبة التأريخ لما هو جار "لأن الحوادث الساخنة ألصق بحياة المؤرخ من أن تصلح موضوعا للبحث الرصين، فالمسافة الضرورية بين الباحث وموضوعه غائبة، والفاعلون في الأحداث، والمستفيدون المباشرون منها مازالوا على قيد الحياة، والحدث لم يستكمل كل ملامحه، ولم تتجمع كل عناصره.. هذا فضلا عن صعوبة الوصول إلى المصادر الأرشيفية".


النقطة الأهم التي تشير إليها دراسة فاتح هي مسألة "تحقيب" التاريخ المعاصر والتاريخ الراهن، فدراسة المراحل اللاحقة زمنيا أو تدريسها أصبح مشروطا بموافقته للرؤية السياسية للسلطة الحاكمة، أو على أقل تقدير بما لا يخالف سياساتها، وما تسمح به طبعا من مصادر أولية، ومن هنا تأتي خطورة محو أحداث الثورة، أو التحكم في إتاحة المسجل منها.

في حين اتفقت الدراستان على اعتبار الشهادات بمثابة "سرد أدبي" فقبل أن تحدد طبيعة المذكرات والشهادات التي يمكن الاستفادة منها في التأريخ من عدمه، توضح أن المفاهيم والمصطلحات التي تقع في دائرة المذكرات والشهادات الشخصية، وحقل السيرة الذاتية، تتعدد، هذا التعدد يفضى إلى تداخل في الدلالات والمحتويات التي تتضمنها: تاريخ الحياة، وسيرة الآخر، وقصة حياة، والكتابة الذاتية، والشهادات الحية، والاستجوابات الصحافية، واليوميات الشخصية، والكتابة التسجيلية، وغيرها من التعبيرات التي تصنف الكتابة إلى أجناس أدبية مختلفة، تصبح من أهم العقبات التي تواجه الباحث التاريخي المتقصي للوقائع والأحداث "الأمر الذي يلزمنا القيام بتحديد واضح لمفهوم المذكرات والشهادات الشخصية".

يعرّف المؤرخ عبد العظيم رمضان المذكرات الشخصية بأنها تشمل كل ما رُوي أو دُوّن من وقائع بهذه الصفة، سواء ُسجل في وقته ويومه أم سجل بعد أن أصبح ذكرى، ويعرّف آخر المذكرات بكونها جنسا تاريخياً يحكى فيه الكاتب وقائع الحياة العامة التي كان شاهدا عليها، أو التي كان له فيها دور ما. تتعدد التعريفات لكن الأهم هو موقع هذا كله داخل التاريخ، وفي نظر فاتح فالتاريخ حصيلة الذاكرة الفردية والجمعية، من منطلق أن التاريخ يشمل تجربة الإنسان في كل مكان وزمان، وليس بالإمكان تجاهل أي جزء من ذلك لأنه يقع خارج المجال الملائم للمعرفة التاريخية، ولأن الكائن البشري يمتاز من بين كل الكائنات بالذاكرة الفردية أو الجماعية، بالتالي فإن حصيلة هذه الذاكرة هي التاريخ.

ونقرأ في الدراستين عن المحاذير الكثيرة بشأن التعامل مع الشهادات والمذكرات الشخصية في كتابة التاريخ، أو التأريخ لحدث ما، أولها النسيان، والرقابة الذاتية، وتوجه الشاهد، وأهمها "أن الذكريات ليست حقيقية ولكنها إجراء عملي، بحيث لا توجد ذكريات جاهزة، بل نحن نقوم بعملية التذكر، نتذكر بإلتقاط شيء يعطينا حاليا معنى مغايرا لم يعطنا إياه في الماضي، إنه دلالة الماضي.. معطاة بواسطة التخيل"!

نتائج الدراستين مرعبة في الحقيقة، فإذا استثنينا ما نملكه من مذكرات وشهادات للتأريخ لما جرى في الثورة وهو قليل أصلا.. فماذا يتبقى منها؟! ففي ظل عملية المحو الممنهجة التي تجرى لن يتبقى من يناير سوى نثار لا يكفى لكتابة تاريخ واضح، وإذا كنا نسأل حتى الآن عمن يكتب تاريخ ثورة يوليو 52، فإن الأمل في إنقاذ ذكرى يناير يتضاءل يوما بعد يوم.

(*) أسطور دورية نصف سنوية علمية محكمة تعنى بالدراسات التاريخية، وتصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها