الخميس 2018/01/18

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

"الفنان الكارثة" لجيمس فرانكو.. كُلّه بالحُبّ

الخميس 2018/01/18
"الفنان الكارثة" لجيمس فرانكو.. كُلّه بالحُبّ
كيف يفوز فيلم كوميدي عن "أسوأ فيلم في التاريخ" بجائزة سينمائية مرموقة؟
increase حجم الخط decrease
مثلما هناك لوائح لأفضل وأهم الأفلام، هناك أيضا اعتناء بالإشارة إلى الأسوأ بينها. لعقود طويلة أُعتبر فيلم "الخطة 9 من الفضاء الخارجي" (1959) أسوأ فيلم في تاريخ السينما، كما أعتبر مخرجه إد وود المخرج الأسوأ على الإطلاق. إلى أن جاء العام 2003 بوافد جديد سيحجز لنفسه مكانا متقدما في خانة الأسوأ سينمائياً. إنه فيلم "الغرفة" لمخرجه ومؤلفه ومنتجه وبطله تومي ويزو الذي سيتحوّل إلى موضع سخرية عميقة بسبب قبحه ورداءته الفنية، لكنها أيضاً ستجلب له شعبية كَلتية (Cult) تجعله ضيفاً دائماً في عروض منتصف الليل في صالات سينمائية كاملة العدد.


في العام 1994، قدّم تيم بيرتون تحيته الخاصة لإد وود في فيلم عن سيرته تقمّص فيه جوني ديب ببراعة شخصية وود غريب الأطوار والممتلئ بالحماس الذي يلبس مثل النساء ولا يتخلى أبداً عن سعيه ليصبح ذلك المخرج الشهير رغم موهبته المحدودة للغاية. المخرج والممثل جيمس فرانكو هو أيضاً وجد إد وود الخاص به في شخصية تومي ويزو، الرجل الغريب والغامض الذي أنفق 6 ملايين دولار من أجل إنجاز فيلمه الأول (والأخير حتى اللحظة) وهو سيصبح لاحقاً "أسوأ فيلم في التاريخ". لكن كيف كانت عملية صناعة هذا الفيلم الرديء الذي صار له أتباع يتزايدون يوماً بعد يوم؟ وكيف يكون شعور شخص إذا كرّس نفسه جسدياً وروحياً لعمل فيلم حياته، ليجد ذلك الحلم منعوتاً بأبشع الأوصاف؟ وكيف ينتهى الأمر بفيلم كوميدي عن أسوأ فيلم في التاريخ ليفوز بالجائزة الكبرى لواحد من أهم المهرجانات السينمائية في العالم؟ هذا ما يكشفه فيلم "الفنان الكارثة"(*) المستند إلى كتاب بالعنوان نفسه من تأليف غريغ سيستيرو، صديق تومي ويزو الذي لعب دور البطولة الثاني في "الغرفة"، والذي وثّق خلاله عملية تصوير الفيلم وما تخللها من كوميديا وغرابة لا تقل كوميدية وغرابة عن مصير الفيلم نفسه (رغم تصريح ويزو بأن الوقائع الحقيقية في الكتاب لا تتعدى نسبة 40% من الوقائع الحقيقية).

 

يبدأ الفيلم في سان فرانسيسكو العام 1998. تومي ويزو (جيمس فرانكو) في إحدى الورش التدريبية للتمثيل، يصعد على خشبة مسرح صغير لتأدية مشهد ما، ويترك جميع من في الصالة مشدوهي الأفواه من أدائه المفرط و"الأوفر" الذي لا ينطق خلاله سوى كلمة واحدة، "ستيلا"، يقولها بآهات خشنة يطلقها بحرقة وصدق كاملين. شعره الطويل وملابسه الداكنة ووجهه الخالي من التعبير يجعله أشبه بمصاص دماء أنهى لتوه جرعته من مخدر قوي. من بين الحاضرين يظهر غريغ سيسترو (ديف فرانكو) وهو ممثل شاب طموح لم يكمل عامه العشرين بعد، تخبر عن سذاجته ابتسامة واسعة حاضرة على الدوام وشعر أشقر فاقع، يدفعه فقدانه للثقة وإصراره العجيب على امتهان التمثيل لفتح حديث مع تومي بغرض أن يتعلم منه كيف يقف واثقاً مثله على المسرح. من هنا تنشأ المفارقة والكوميديا العطوفة التي يؤسس عليها الفيلم فكاهته ومرحه الممتد، بين ما يفعله ويزو وما يراه المتفرج على الشاشة وما يعتقده الحاضرون/المتفرجون في محاضرة التمثيل. فبينما تحتار المُحاضِرة في البحث عن تعليق مناسب، يرفع تومي رأسه عاليا في سمت ممثل محترف لا يأبه بما يعتقده الآخرون عن هيئته أو تعبيره الجسدي لأن في مكان ما بأعماقه ثمة إيمان بموهبته المدفونة التي سيأتي عليها يوم ما لتظهر علانية وتؤكد يقينه الذاتي. وفي الأثناء، ثمة شخص ما يعجبه تلك الثقة والجرأة التي يتمتع بها رجل غريب الأطوار يعبّر عن نفسه بلكنة إنكليزية يظل هضمها صعباً، حتى مع ادعائه تحدره من نيوأورلينز التي يندر أن يتحدث بلكنتها أحد.

ورغم الغموض المحيط بعُمر تومي الحقيقي ومصدر ثروته اللافتة، ستقوم صداقة بين الاثنين ويقرران الانتقال إلى لوس أنجليس بغرض واحد هو اقتحام هوليوود من بابها الواسع. يتعاهدان على الثقة ببعضهما البعض والتمسك بالمحاولة والوقف إلى جانب بعضهما مهما حدث. ينتقل غريغ إلى شقة تومي في لوس أنجليس رغم معرضة والدته، وفي مدينة الأحلام يستأنفان أمنياتهما، التي تتساقط على آذان صماء يوما بعد يوم. الأبواب ستغلق في وجه الصديقين، واحد بعد آخر، ليقرر تومي في لحظة ما أن يصنع فيلما بنفسه، معتمداً بشكل أساسي على شغفه وصديقه الذي يشاركه حلم دق أبواب هوليوود ومحاكاة أيقونته الشخصية المتمثلة في الممثل الراحل جيمس دين. هكذا، ينكب تومي مكرساً نفسه قلباً وروحاً لكتابة سيناريو الفيلم الذي سيقودهم إلى الشهرة المنتظرة. وكانت النتيجة نصاً يتألف من حوارات خرقاء وحبكات فرعية "مقطوعة من شجرة" لا تمت بصلة إلى نص ستيوارت ستيرن المأخوذ عنه فيلم "متمرد بلا قضية" والذي تألق فيه محبوبهما المشترك جيمس دين. النتيجة هي فيلم "الغرفة" بنفسه.


حصد "الغرفة" مراجعات نقدية سيئة في الأسبوع الأول لعرضه عام 2003، وأصرّ تومي على عرضه لأسبوع ثان في محاولة يائسة لدفع فيلمه للدخول في المنافسة على جوائز الأوسكار، ومن بين جميع الأموال المدفوعة في هذا المشروع، استعاد فقط 1800 دولار في شباك التذاكر. لكن كل شيء تغير حين رأى فيه مخرج شاب اسمه مايكل روسيليت عوامل جذب تجعله جديرا بالترشيح للمشاهدة، باعتباره "فيلم كوميدي هذياني لا إرادي". بعدها صار "الغرفة" موضع ترحيب من قبل متفرجين يبحثون عن المرح والمتعة في الرداءة المطلقة، وهو تطور لافت يثير تساؤلات حول قيمة الفن وتعريفه وإمكانية وجوده بأكثر من طريقة.

ما الفن؟ سؤال كبير ومعلّق، طبعت من أجله أطنان من الورق. كثير من الناس، بما في ذلك شخص مثل جيمس فرانكو، يعتقد أن الفن ليس هو ما ينتهي به المطاف معروضاً في المتاحف أو ما يتأهب للكتابة عنه النقاد، بل يعتمد أساساً على النيّة من صنعه. إد وود نفسه يؤكد على هذه النظرية بقوله إنه لو كان الحب يحلّ جميع المشكلات، ففي تلك الحالة سيكون الشغف الذي تعيش لأجله كفيلاً بجحعلك فناناً من الصف الأول. باختصار، "كُله بالحُبّ" كما يقول المصريون.

في السنوات الأخيرة شاهدنا فيلم مثل "فلورنس فوستر جينكينز" حول مغنية الأوبرا الأميركية  التي كان شغفها بالموسيقى أكبر بكثير من موهبتها الغنائية، وبسبب إصرارها على الغناء أضحت فريسة لسخرية الصحافة. قصة جينكينز ألهمت أيضاً المخرج الفرنسي كزافييه جيانولي لعمل فيلمه "مارغريت" حول مغنية فرنسية تواجه صعوبة في التوفيق بين موهبتها المحدودة وشغفها الكبير. في كلا الفيلمين، رغم اختلاف المستوى والتنفيذ، تحضر الكوميديا من مشاهدة شخص يخدع ذاته ويساعده من حوله كذلك في تلك المهمة، من أجل إرضاء رغبة لا تزول في ممارسة الفن وصنعه. ومثلما يخبرنا القول الرائج أن "الشباب شباب القلب"، فإن الفيلمين يقومان عبر تقديم حكايتهما بالتأكيد على رسالة قصيرة وواضحة: في الفن، الإتقان لا وجود له، لكن المهم هو القلب الذي يصنع الفن.

في أحد الأيام قرأ جيمس فرانكو عرضاً لكتاب غريغ سيستيرو في جريدة "نيويورك تايمز"، وفتنته القصة كلها، وقرر عمل فيلم عن تومي ويزو. لا غرابة في ذلك، ففرانكو نفسه لطالما وصف بأنه فنان سيئ يصنع أفلاماً سيئة ويتجرأ على التصدي لنصوص صعبة لوليام شكسيبر وويليام فوكنر وكورماك مكارثي. ربما لذلك السبب وجد فرانكو بداخله نوعاً من التعاطف مع حكاية تومي ويزو، الذي نراه في الفيلم لا يتوقف عن التمسك بحلمه ومعاكسة كل الوقائع المحيطة التي تخبره بأنه فنان فاشل. غير أن عدم توافر الموهبة الفنية لدى ويزو أو جهله وسذاجته البادية لا يقللان شيئاً من خفة ظله التي تتناثر في الأجواء، حتى وإن انتهى الأمر بطرده من أحد المطاعم بعد إلقائه منولوجاً طويلاً من مسرحية لشكسبير على مسامع أحد منتجي هوليوود صودف وجوده رفقة زوجته لتناول العشاء. لكن التناقض بين الطموح والواقع وحالة الإنكار الذاتي التي يظهرها الفيلم كدافع أساسي لتصرفات تومي ويزو هي مفتاح الفيلم وسرّ بهجته أو قسوته ربما. كان ويزو مصدرا لقرارات غير مفهومة ومفاجئة على الدوام أثناء تصوير الفيلم، كأن يبني ديكوراً لتصوير أحد المشاهد يمكن تصويرها بسهولة في موقع موجود بالفعل بالجوار، فقط لأن الأفلام في هوليوود تُصنع هكذا. أو يرفض تشغيل جهاز التكييف في الأيام الحارة انتقاماً من طاقم العمل في فيلمه الذين يتهامسون في ما بينهم بأحاديث عن فشله وغرابته، أو حتى سبّ الممثلين والتشاجر معهم سعياً منه لخروج أحد المشاهد بالشكل الذي يريده.

هذا الشغف الكبير الذي تُظهره شخصية تومي في عملية صناعة الفيلم ربما كان وجوده ضرورياً لدسكوت نويستاتر ومايكل إتش ويبر، أثناء كتابة سيناريو "الفنان الكارثة" كي يخرج أكثر تماسكاً. لكن ربما تعود أسباب ذلك إلى مخاوف إنتاجية متعلقة بطول الفيلم وتسويقه. فبينما طبع البطء غير المبرر والتفكك القصصي فيلم "الغرفة"، يأتي "الفنان الكارثة" على العكس تماماً بإيقاع سريع لاهث لا يترك مجالاً للملل، لكنه يأخذ من حصة السبك الذي كان من الممكن إضافته للفيلم وجعله أكثر عمقاً في مقاربته لشخصية تومي ويزو وعدم الاكتفاء بتقديم اسكتشات مضحكة ممزوجة ببراعة مونتاجية، تجعل الفيلم، في أحد أوجهه، أشبه بألبوم سينمائي مرح يتخطى بعض اللقطات ليركز على لقطات بعينها ظناً منه أنها الأفضل.


(*) يعرض حالياً في الصالات اللبنانية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها