الإثنين 2018/01/01

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

فاتح أكين لـ"المدن": نحن في الدَّرَك الأسفل.. لكني متفائل

الإثنين 2018/01/01
فاتح أكين لـ"المدن": نحن في الدَّرَك الأسفل.. لكني متفائل
كنت مهتماً بمراحل الألم والفقد التي تختبرها الضحية
increase حجم الخط decrease
لم يبتعد فاتح أكين (1973- ) أبداً عن السياسة في أفلامه، حتى وإن رفض إلصاق صفة السياسية بها. السينمائي الألماني البارز هو ابن مهاجرَين كرديَين وصلا إلى ألمانيا في الستينيات، ومنذ بدايته شرع في تضمين أفلامه قصصاً تسائل واقع جيله، كواحد من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين إلى بلد عانى تاريخه القريب ظواهر لا تزال مفاعيلها حاضرة في اللحظة الراهنة. أفلام مثل "هيد أون" و"حافة الجنة"، قاربت حكاياتها ثيمة "الآخر" وحياة المهاجرين الأتراك في ألمانيا، أما فيلمه الأخير "في التلاشي" فلا يبتعد عن الخطر الإرهابي الذي يهدد العالم، وإن اختلفت توجهات ذلك الإرهاب وأسبابه.

من خلاله، يؤشر أكين على الصدع المتنامي في المجتمع الألماني المعاصر، حيث لا يشكّل اختلاف الأعراق عائقاً أمام زوجين متحابين لتكوين أسرة سعيدة، لكن محتكري الوطنية ممن يرون في أصحاب الدماء غير النقية هدفاً مستباحاً للقتل، قادرون على نفي تلك السعادة كلية. نظرة فاحصة لا تنقصها العاطفية عن كيفية اندماج المهاجرين في مجتمع أوروبي يهدد تعايشه السلمي أخطار قومية متنامية ترفض الآخر الوافد. توجت بطلته ديان كروغر بجائزة أفضل ممثلة في الدورة الأخير من مهرجان "كان" السينمائي، ومن بعدها وصل الفيلم إلى القائمة القصيرة لجائزة "غولدن غلوب" لأفضل فيلم أجنبي، قبل أن تختاره الأكاديمية الأميركية لفنون السينما وعلومها التي تمنح جوائز"أوسكار" ضمن اللائحة ما قبل النهائية للترشيحات، والتي تضمّ تسعة أفلام.

قصة الفيلم مستوحاة جزئياً من وقائع الكشف عن إحدى جماعات النازيين الجدد (اشتهرت إعلامياً باسم "خلية تسفيكاو") العام 2011 بعد قيامها بتنفيذ عمليات قتل بحق مهاجرين ومواطنين من أصول غير ألمانية في أنحاء متفرقة من ألمانيا خلال الفترة بين 2000 و2007. يقدّم الفيلم إدانة صريحة لخطابات العنصرية وكراهية الأجانب، ضمن حكاية عن المهاجرين وصعود اليمين المتطرف، يثير من خلالها تساؤلات حول عدالة النظام القضائي وواقع الجالية التركية في ألمانيا. حكاية الفيلم بسيطة ومؤثرة حول امرأة ألمانية متزوجة من ألماني مسلم من أصل كردي (تماماً مثل أكين)، تنقلب حياتها بمقتل زوجها وابنها الوحيد في انفجار قنبلة أمام مكتب زوجها. وفي سعيها لمحاكمة القتلة وتحقيق العدالة، تتكشّف أمامها حقائق مفزعة ترتبط بعمليات البحث المملة وإجراءات التقاضي البطيئة التي ستمثل ضغطاً مضاعفاً على أرملة لن تبقى هادئة أمام رؤية حقها يضيع، لتلجأ في النهاية إلى حلٍّ سيبدو مثل الصفعة في نهاية فيلم يرى مخرجه أن "الأفلام عليها أن تكون مثل ضربة ملاكم قوي". أنجز أكين الفيلم سريعاً، في خمسة شهور فقط. تفسير ذلك تعود أسبابه إلى التسعينيات، التي شهدت بزوغ الفكرة بدخله. "أردت تقديم فيلم عن النازيين الجدد، لكني لم أعرف أي نوع من القصص سأقدم في هذا الإطار، لكن حالما جاءتني قصة الفيلم كان إنجاز الأمر سريعاً جداً".

"المدن" حاورت فاتح أكين عن فيلمه الأخير، وأزمة التعايش، وصعود اليمين المتطرف، ودور السينما في مكافحة ذلك العصاب القاتل الذي يهدد أمن الجميع.


-هذا هو فيلمك الثاني عشر خلال عشرين عاماً. هل أنت شخص طموح؟

*أحب العمل. استغرقني الأمر خمس سنوات كي أنجز فيلمي السابق "القطع". شعرت أني أضعت الكثير من الوقت، وعليّ اللحاق بالركب. صوّرت "وداعاً لينين" و"في التلاشي" سريعاً. أعتقد أن إنجاز فيلم كل عامين هو إيقاع صحي.

-هل تصبح صناعة الأفلام أسهل مع مرور الزمن؟

بعض الأمور تصبح أسهل بالطبع، ولكن طموحك الخاص يتزايد. يحتاج الأمر مزيداً من الطرق كي تكون راضياً عن عملك. ولكن إذا كان لديك نجاح محتوم، بطبيعة الحال، فإن المشاريع القادمة ستموّل بشكل أسرع. كنت قادراً على البدء في تصوير "في التلاشي "بسرعة لأن "وداعاً لينين" كان ناجحاً للغاية. الفيلم الذي أردت عمله بعد "القطع"، لم يكن ممكناً تمويله للأسف، بسبب عدم نجاح "القطع" تجارياً.


-كيف كان ردّ فعلك حين سمعت للمرة الأولى عن سلسلة جرائم القتل التي ارتكبتها خلية تسفيكاو (مجموعة من النازيين الجدد) خلال السنوات الماضية في ألمانيا؟

* كنت قد قرأت بالفعل عن عمليات القتل في الصحافة، وشاعت في البداية تسمية "قتلة بائعي الكباب" على هؤلاء. لكن كانت هناك دائماً تكهنات غامضة. كل الشكوك اتجهت ناحية ربط الجرائم بتجارة المخدرات ومن ثم بالموزعين الأتراك، لكن لم يُعثر على دوافع حقيقية. بدا لي البُعد المافيوي لعمليات القتل، كما ذهبت بعض الصحف، غريباً جداً ومستبعداً. في النهاية، لم يكن الأتراك هم الفاعلين، كما ادعى المحققون ووسائط الإعلام دائماً، بل كانوا النازيين. هذا أغضبني بشدة، ودفعني إلى الكتابة.

-لماذا قررت إنجاز فيلم روائي حول جرائم القتل العنصرية هذه؟

* لم أرد عمل فيلم وثائقي عن الموضوع. وبالإضافة إلى ذلك، فإن القصة الحقيقية لم تنته بعد، ومسألة "خلية تسفيكاو" لا تزال جارية. لا تعرف كيف ستنتهي، ولا تعرف كل خلفيات الموضوع إلى الآن. في فيلمي، على سبيل المثال، لا نأتي أبداً إلى الدور الذي من المفترض أن تقوم به النصوص الدستورية في حماية الأفراد والمواطنين. إذا اخترت رواية القصة الحقيقية، فهذا موضوع لا مفرّ من الإتيان به إلى قلب حكاية الفيلم. 
من ناحية أخرى، في هذا الفيلم أردت تركيز اهتمامي بشكل خاص على إحدى الضحايا. والفيلم ليس بالضرورة فهمه كخطاب سياسي أو عمل يحمل توجهاً سياسياً بعينه. تتعامل أفلامي دائماً مع السياسة وتأثيراتها، ولكن لا أحب وصفها بالأفلام السياسية. بدلاً من ذلك، كنت مهتماً بمراحل الألم والفقد التي تختبرها الضحية: كيف يحضر هذا الألم ثقيل الوطأة في البداية، ثم يتحول إلى غضب، وأخيراً يتحول إلى عنف من جديد. هجوم لاس فيغاس في تشرين الأول الماضي، راح ضحيته أكثر من 58 شخصاً. ولكن الجميع يريد فقط أن يعرف: من هو الجاني؟ بينما الضحايا والناجين بالكاد يعلم عنهم أي شخص أي معلومة.


"في التلاشي" هو فيلم عن أمّ فقدت زوجها وابنها الوحيد مثلما هو عن ضحية لهجمة إرهابية. لدينا والد القاتل الذي يخبرنا بأن ابنه كان ولداً طيباً وكان في طريقه للذهاب إلى بلجيكا أو ما شابه. هذا هو السبب وراء تكريسي الفيلم لهؤلاء، الذين لا يُعرّف عنهم في النشرات الإخبارية إلا كأرقام. نحن نعلم عن القتلة، لكن لدينا أرقام فقط للضحايا، 33 أو 120، أرقام فقط. نحن لا نعرف شيئاً عن أولئك الذين تُركوا وراءهم، أو كيف يتعاملون مع توابع كارثة فقد أحبائهم.

- هل ترى السينما مسؤولة عن تعويض مثل هذا القصور في التصور العام والإدراك الحسّي للأمور؟
 
* الفيلم الروائي أرض مختلفة تماماً عن البرامج الإخبارية أو الأفلام الوثائقية. ورغم كوني مخرجاً يجعلني محصوراً في صورة ذلك الشخص الباحث عن مواضيع ولحظات لم تظهر بعد على الشاشة، فإن القصص الخيالية تستفيد دائماً من الواقع. لأنه في النهاية، ليس هناك ما هو أكثر إبداعاً من الواقع. ربما فقط نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى، أن ندقق النظر في ما يمرّ علينا كل يوم ونعتبره أمراً عادياً، لأن الشيء العادي لا يصير هكذا في زمن قصير. هناك عملية ما تحدث في الأثناء تعمل على تطبيع "غير العادي" وجعله أمراً عادياً يتعامل معه الجميع باعتيادية مريبة.

- هل تبحث عن نهج عاطفي بديل عن التحليل في مقاربتك لهذا الموضوع؟
 
* هذا الفيلم لا يستكشف سبب حدوث ذلك، لكنه يحلِّل طريقة معالجة الألم وكيف يتحول العنف إلى عنف مضاد. ويبيّن أيضاً كيف أن سيادة القانون، تُقارب، مع حد أدنى من العاطفية، مسألة عاطفية وحسّاسة للغاية في مثل هذه المحاكمة. قد يكون ذلك سليماً من الناحية القانونية، ولكن بالنسبة للمتضررين، يبدو الأمر مختلفاً تماماً. يهدف الفيلم على وجه التحديد إلى إظهار الجانب العاطفي الذي لا يزال خارج إجراءات المحاكمة.

- كيف تحدِّد الجرعة العاطفية التي تريد أن يتوقعها الجمهور في فيلمك؟

* لم أشأ أبداً إثارة مشاعر محددة في المشاهدين. لكن أردنا أن نكون دقيقين قدر الإمكان في عرض الألم. وهذا لم يكن صعباً بالنسبة إليّ، لأني أنا نفسي أب لطفلين. فقدان ابنك هو أسوأ فكرة ممكن أن تمرّ في بال الآباء والأمهات. ثم عليك أن تظهر ذلك على نحو صحيح. غير أنه، ورغم العاطفية التي يمكن أن تحملها تلك المشاهد، تقضي قواعد السرد السينمائي بأن كل مشهد يجب أن يحمل العمل إلى الأمام، لا أن يصبح غاية في حد ذاته.

- وماذا عن المستقبل؟ هل تسعى لإحياء النقاش بشأن تصاعد الخطاب اليميني المتطرف المعادي للأجانب؟

* يجب أن تبدأ مرة أخرى في مناقشة القومية اليمينية المتطرفة. لا أعتقد أن الموضوع نوقش بما فيه الكفاية. الناس ينسون، وهم يفعلون هذا دائماً. إذا حدث أمر ما في الأسبوع الحالي، سينساه الناس في الأسبوع التالي. هو الحال نفسه مع حوادث النازيين الجدد. إنها فضيحة هائلة، لم أُظهر منها سوى جزء ضئيل للغاية. لكن أيضاً وسط هذا المناخ من الكراهية والعنف، ما زلت متفائلاً بشأن المستقبل. "في التلاشي" يمكن وصفه بالفيلم الغاضب، ونهايته صادمة، لكني متفائل بشكل شخصي. أنا واحد من أبناء العولمة، وزوجتي نصف ألمانية نصف مكسيكية.
هناك أسئلة أخرى تتعلق بمدى عدالة النظام القضائي الحالي، والإجراءات الوقائية التي يجب أن تقوم بها أجهزة الأمن تجاه المشتبه بهم، وإلى أي مدى يمكن القبول بمبدأ القضاء والقدر كأسلوب حياة لشخص فقد عائلته في هجوم إرهابي.

- هناك العديد من الإحالات في الفيلم إلى خلفيات قضية "خلية تسفيكاو"، مثل القنبلة اليدوية التي تنفجر في حي مأهول بالسكان، أو تحقيقات الشرطة التي تذهب في اتجاه خاطئ، أو مواجهة أقارب الضحايا بارتكاب جرائم تتعلق بتجارة المخدرات. المجموعة الإرهابية اليمينية المتطرفة يقدمها الفيلم باعتباره الجاني، لكن من دون تقديم تفاصيل عن الإيديولوجيا وراء عمليات القتل...
 
* بالنسبة إلي، الفيلم منجز على منوال أفلام روبرت بريسون، حيث يبقى المتفرج مع إحدى الشخصيات وفي منظور محدد. تعاطفي مع الأم. كل ما يهمني هو عالمها العاطفي. أنا لست مهتماً بمنظور النازيين. لم أرد تقديم فيلم عن حقوق المتطرفين.

- هل لهذا السبب اخترت ألا تكون الشخصية الرئيسية في الفيلم امرأة من أصل غير ألماني، كما كان الحال في أغلب حوادث القتل الحقيقية؟ 

فعلاً فعلاً، هذا هو السبب. أردت قلب المجاز التقليدي والصورة الذهنية حول ضحايا العنصرية. حين يرى المتفرج صورة كاتيا (ديان كروغر) الشقراء بعيونها الزرقاء وملامحها الآرية، سيفكر أن الانتقام ليس مرتبطاً بغير الألمان. لم أرد وضع دافع الانتقام تحت لافتة ثقافية تخص الفئات الأجنبية المستهدفة بعمليات المتطرفين الألمان. كما أحببت فكرة أن الشخصية الرئيسة، تماماً مثل النازيين الجدد، تنحدر من ولاية شلسفيغ هولشتاين، وأنها تنتمي إلى الجيل نفسه تقريباً. هذه سير ذاتية تنطوي على تشابهات باطنية، لكن أصحابها يأخذون اتجاهات مختلفة كلية. كنت أكثر اهتماماً بقول إن الانتقام قديم جداً ومتجذر في الإنسان، بل هو جزء من تطورنا. كما أن الحاجة إلى الانتقام، بشكل جزئي، هي في قلب النظام القضائي. وهذا لا علاقة له بالشرق الأوسط أو الإسلام، لأن الانتقام ليس إثنياً.

- كيف جاء اختيارك لديان كروغر، خصوصاً أنها المرة الأولى لها في فيلم ألماني؟

* حين قررت أن هذا الدور ستقوم به ممثلة ألمانية، جاء ببالي الأسماء المألوفة والمعتادة، لكني لم أشعر أن أياً منهم يتناسب مع ما أريده. ثم تذكرت ذلك اللقاء الذي جمعني بديان في العام 2012 في مهرجان كان السينمائي. قالت آنذاك إنها تريد أن تعمل معي. فكرت أن هذا سيكون مختلفاً، لأنها لم تعمل من قبل في ألمانيا. أرسلت إليها السيناريو، وردت على الفور بالموافقة. التقينا، وفي اللحظة التي التقينا فيها، شعرت أنها الاختيار المثالي للدور.

-لماذا لا يُظهر الفيلم دور وسائل الإعلام والخطاب العام وتأثيرهما في حدوث جرائم القتل العنصرية؟

* منذ البداية، كان اختيارنا يميل ناحية الحدّ من السرد والحكي. يجب على الفيلم تطوير قوته وتأسيس خطابه متكئاً على البساطة. كانت هناك مشاهد في السيناريو لعبت فيها وسائل الإعلام دوراً، ولكن هذه المشاهد أخذت من مساحة وقوة الشخصية الرئيسية، وبالتالي حُذفت. يجب أن يكون الفيلم مثل لكمة مصارع قوي: دائماً تأخذ أقصر طريق إلى النهاية.

- هل كانت تبرئة النازيين الجدد في فيلمك قراراً لمبررات درامية محضة أم بسبب تهديدات طالتك من جانب المجموعة النازية؟ 

* كان هذا في المقام الأول قراراً فنياً. ولكن عندما استعنا بالمستشارين القانونيين للاستفهام عن الوضع القانوني، كما هو موضح في السيناريو، أخبرونا بأن المحاكمة ستؤدي إلى تبرئة في هذه الظروف. "عدم كفاية الأدلة" مبدأ قانوني معروف وغالباً ما يُستخدم في القضايا.
القانون يحميني، لكن القانون له حدود. إذا كنت هدفاً للمتطرفين، فلن يكون القانون قادراً على حمايتك. في النهاية، أنا فنان، وأفلامي تعكس العالم من حولي، وأعتقد أنني لم أقدم صورة غير حقيقية عن الوضع. نحن في ذلك الخراء بالفعل، أما الخطر فموجود دائماً وليس هناك من طريقة لتفاديه إلا بمواجهته.

- كيف غيّرت جرائم القتل التي قامت بها جماعة النازيين الجدد ونجاح الحزب اليميني المتطرف في الوصول إلى البرلمان، في موقفك تجاه الحياة كتركي ألماني يعيش في ألمانيا؟

* بالطبع أنا أكثر قلقاً. لم أكن أعتقد أنه بعد 28 عاماً من التغيير والوحدة، سيستمر خطاب الكراهية والرهاب ضد الأجانب وأنه لا تزال هناك مثل هذه الفجوة بين الشرق والغرب. ولكن من ناحية أخرى، في بيئتي الشخصية، أشعر أن العلاقة الجيدة بين الألمان والأتراك لا يمكن أن تهتز بسرعة. لا أعتقد أن الشعبويين سينجحون في أن يجعلوا من الأتراك "بعبعاً" في ألمانيا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها