الأربعاء 2017/08/23

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

شبح الماسونية: قِرد الاستعمار أم رواد الحداثة العربية؟

الأربعاء 2017/08/23
شبح الماسونية: قِرد الاستعمار أم رواد الحداثة العربية؟
جرجي زيدان: لا بد أن صلاح الدين كان على شيء من الماسونية، ما يفسر معاملته للملك ريتشارد قلب الأسد
increase حجم الخط decrease

(*) بعد مقال أول بعنوان "شبح الماسونية: هل بنوا بغداد والمسجد النبوي؟"، هنا مقال ثانٍ في سلسلة من أربعة أجزاء، تُنشر تباعاً في "المدن"، كل أربعاء...


تسعى غالبية المراجع الماسونية التي كتبها ماسونيون عن الحركة، إلى خلق امتداد زمني لا نهائي لوجودها. يبالغ البعض، مثلما يقول جرجي زيدان، ويجعل جنة عدن التى طرد منها آدم، أول مَحفل ماسوني، وذلك بسبب التاريخ القديم المتشعب للحركةِ حينما كانت أشبه بنقَابةِ مهنية تَضم المهندسين وعمال البناء ويتداولون أسرار العمارة والبناء في سرية، مثل أصحاب أي مهنة أو حرفة في ذلك الزمان.

لكن منذ القرن الثامن عشر، تزايد تعقيد العَالم الداخلي للماسونية. فلم تعد تقتصر على حركة "البنّائين الأحرار" الذين يرسلهم ملك روما للخليفة الأموي ليبنوا له مسَاجد دمشق. فبسبب الرموز والطقوس التى، كما يصر زيدان، كان الغرض منها أن يتعرفوا على بعضهم البعض ويحافظوا على أسرار الصنعة، أصبحت حركة باطنية عملية. تجمع بين الإيمان بالعلم وقدرته على تحسين حياة الإنسان، وبين الإيمان المطلق بعالم غيبي له طقوسه التى يواظبون عليها ويأملون من خلالها في كشفِ المزيد من الأسرار، حيث كل سر يُرفع حجابه يساعد الفرد الماسوني في الترقي داخل المنظمة وفي تحصيل المزيد من المعرفة.

استند جرجي زيدان في كتابه "تاريخ الماسونية" الصادر العام 1889، على المصادر الماسونية فقط. وهي مصَادر، مثلما يوضح، ليست مَكتوبة أو مُسجلة، باستثناء سجلات محفل مصر. بالتالي، فالمعلومات والتواريخ التى يذكرها زيدان مصادرها هم نقولا حجى رئيس محفل بيروت، وليم أسعد خياط رئيس محفل فلسطين، بالإضافة إلى زملاء ماسونيين آخرين لم يذكر أسماءهم لأنهم لم يسمحوا له. إذاً، يجب أن ننتبه إلى أن ما نقرأه لدى زيدان –ولدى معظم المراجع التى سأعتمد عليه في هذه المقالات- هو أشبه ما يكون بالدفاع عن الماسونية العربية، والدعاية لها، وليست درَاسات موضوعية. زيدان نفسه في المقدمة يشير إلى إخفاء بعض الأسرار المحظور إعلانها، ويلتمس العذر إن كان في كتابه قد كشف أسراراً مَحظُورة.

في النهايةِ فالحقيقة ليست قصراً مُشيداً وسط حديقة من الورود، بل صُور مُتعددة ومُتنَافرة للأمر الواحد، وما نحاول معرفته هو كيف قدم الماسونيون العرب لأنفسهم.

يسرد زيدان تاريخ عدد من الجمعيات السرية القديمة، أحياناً تكون جمعيات سياسية في بلغاريا قبل ولادة المسيح، أحياناً تكون جمَاعة من المتصوفة الرحّل، وأحياناً مثل جماعة الهرمنداد في أسبانيا القرن الثالث عشر بعد الميلاد، والتى كانت تنظيماً سرياً يجمع عدداً من المواطنين ليحاربوا ظلم الحكام. يرى زيدان أن كل هذه الجمعيات السرية لم تكن إلا صورة من صور التنظيم الماسوني.

كأنما سعت الماسونية إلى فرض شبحها على تَاريخ التنظيمات السرية الانسَانية كافة. الأمر الذي أكسبها الجلال، كمنبع أول لكل عمل باطني، وأكسبها اللعنات كمنبع لكل الشرور.
وتشير أول لائحة ماسونية مكتوبة، إلى ضرورة السرية وتنظيم عمليات اختيار الأعضاء وإلحاقهم، وتعرف بلائحة "يورك"، كتبت العام 926 ميلادياً في مدينة يورك الانكليزية. وهي مكونة من 16 بنداً، وأشبه بلائحة للعمل النقابي، تُنظم العلاقة بين الأستَاذِ البنّاء والتلميذ، وبين الأساتذة وبعضهم البعض، وتنظم قوانين التنافس بين مقاولي البناء، وتؤكد على الروابط بين أعضاء الرابطة وضرورة الإخلاص لأخيك الماسوني وأن تنقل له العلم والمعرفة، وتنص على سرية الجماعة وعدم السماح لأي شخص غير ماسوني بحضور اجتماعاتهم، والإجراءات الواجب اتخاذها لاعتماد عضو جديد.

يرى زيدان أن هذه اللائحة ساعدت في تقوية التنظيم الماسوني في انكلترا، ويؤكد أن ريتشارد قلب الأسد ملك انكلترا – يكتب زيدان اسمه ريكاردس- كان أستاذاً في جماعة الهيكل وأستاذاً في جمَاعة الماسونيين. ومن هنا يقول صاحب "تاريخ التمدن الإسلامي": "يستلمح من الحادثة المشهورة التي حصلت بين هذا البطل –يقصد ريكاردس قلب الأسد- والسلطان صلاح الدين الأيوبي أثناء الحروب الصليبية في سوريا، أن هذا الأخير كان على شيء من الماسونية، لأن المعاملة التي عاملها السلطان صلاح الدين لريكاردس حال كونه من أعداء وطنه ودينه لا يمكن أن تحدث إلا عن ارتباط داخلي أشد متَانة من رَابطةِ الوطنية، ألا وهي رابطة الأخوية الماسونية. والله أعلم"...

الحماسة المفرطة لتاريخ الجماعة تجعل زيدان مستعداً للتعامل مع الحروب الصليبية بصفتها حرباً بين أبناء التنظيم الماسوني الوحيد. مثل أي مؤمن، يصبح العالم انعكاساً لإيمانه. أو ربما لأن زيدان وزملاءه من الشرقيين، رأوا في الماسونية أفقاً للتعاون والتكامل بين أعضاء الرابطة، يتجاوز الصراعات الاستعمارية لزمنهم بين الشرق والغرب، ويطمح إلى عالم ماسوني يسوده التسامح والسعي لتقدم الإنسان وسعادته، وتختفي فيه الحاجة إلى الرموز السرية.

تم تعديل وتحوير لائحة "يورك" العام 1350، وخلال هذه المدة يعدد زيدان أعمال الماسونيين والكنائس الشهيرة والمباني العظيمة التى بنوها في أوروبا. في هذا الزمن تبدو الماسونية كتنظيم نقَابي للمهندسين والبنّائين، يحافظُ التنظيم على تماسكه وهرميته من خلال الإشارات والطقوس السرية المتداولة بين البنّائين الأحرار، ونتيجة لتوسع هذا التنظيم وسرية اجتماعاته وطقوسه فقد سعى عدد من الملوك إلى حلّه في أوروبا القرون الوسطى، لكن الماسونيين تمكنوا دائماً من النجاة. وفي فترة من الفترات كان أستاذ كل محفل يدفع مبلغاً سنوياً للملك، عن كل أستاذ ماسوني، وكأنها ضريبة مهنية.

لكن منذ القرن التاسع عشر، أصبح التنظيم يتقبل في عضويته، عُلمَاء وفلاسفة، بل وأحياناً كُتَاباً وشعراء، لتتسع الدائرة وتتحول الماسونية من شكل من أشكال النقابات المهنية للعاملين في البناء، إلى جمعية سرية، تضم مؤمنين بالتسامح والأخوة الإنسانية يجمعهم شغف البحث عن المعرفة. لكن ظهور لوثر والبروتسانت، وصراعهم مع الكنيسة الكاثوليكية، جعل الكنيسة تشن حرباً ضروس على التنظيمات السرية، ومنها الماسونية. وتدهور الوضع تدريجياً حتى كادت شمعة الماسونية تنطفئ في أوروبا والعالم، حتى القرن الثامن عشر، حينما بدأت مجموعة من الماسونيين القدامى في تحديث اللوائح وإحياء التنظيم والبحث في الأرشيف عن تاريخه.
ليتحول التنظيم إلى كيان سري نخبوي، يضم في عضويته الأطباء، والفلاسفة، وأساتذة التاريخ وكل المشتغلين بالنشاط العلمي والأدبي والصناعي والسياسي.

ظهرت درجات العضوية التى كانت في البداية ثلاث درجات، ثم وصلت إلى شكلها الحالي، لتصبح 33 درجة أو مرتبة، يرتقيها الأخ الماسوني حتى يصبح مرشداً أو أستاذاً مبجلاً، وظهرت الطقوس والملابس التي ما زالت أساساً لمعظم الطقوس المستخدمة في التنظيمات الماسونية حتى الآن، ومن إنكلترا انتشرت الماسونية الرمزية الجديدة في أنحاء أوروبا.

هذا الانتشار ساهم في إضعاف مركزية الحركة، فافتتحت محافل جديدة كمحفل الشرق الكبير في فرنسا، ومحفل ألمانيا الذي يعمل باستقلالية كبيرة عن محافل انكلترا، بل وابتكر محفل فرنسا طبقات وألقاب جديدة. تعقد قاموس الرموز والاشارات الماسونية. لكن وجودهم ترسخ، وكذلك ودورهم المجتمعي. فالمحافل الماسونية كانت أشبه بأن تكون صالونات أدبية تجمع نخبة العصر، كانوا ينفقون أيضاً على انشاء المكتبات والأنشطة الخيرية.

في أميركا لعب الماسونيون أدواراً رئيسية في كتابةِ الدستور وتأسيس أميركا، انطلاقاً من القواعد الماسونية الرئيسية، حيث ما زالت الرموز الماسونية عناصر أساسية في الهوية الأميركية، بدءاً من العين والهرم على ورقة الدولار النقدية، وصولاً إلى تخطيط مباني مدينة واشنطن العاصمة.

دخلت الماسونية الحديثة، الشرق العربي، للمرة الأولى، مع حملة نابليون بونابرت إلى مصر، حيث جري تأسيس أول محفل، وهو "محفل أخوية ايزيس" في القاهرة، وسعى الماسونيون إلى اجتذاب أفراد من السكان المحليين إلى المحفل من العُمد والمشايخ. لكن الأمر انتهى بانسحاب الماسونيين من مصر. ثم ظهرت المحافل الماسونية في الدول العربية، بداية من أواسط القرن التاسع عشر. فأول محفل عربي علني تأسس في بيروت العام 1862، وكان محفلاً انكليزي الطابع، ثم ظهرت محافل أخرى. ويرى زيدان أن النهضة التي شهدها العمران في سوريا مرجعها نشاط الأخوة الماسونيين، وأن الفضل يعود إليهم في بناء بيروت الحديثة، حيث تعددت المدارس والجرائد وحرية الفكر، ويصف المدينة بعاصمة الماسونية العربية والتي لم يفلح الجيزويت (اليسوعيون) رغم كل دعايتهم السلبية فى جريدة "البشير"، من النيل منها.

أما دمشق فقد دخلتها الماسونية على يد الأمير عبد القادر الجزائري، بطل الاستقلال المهزوم الذي سجن لسنوات في فرنسا إلى أن نُفي إلى سوريا. ويؤكد زيدان أنه كان أول رئيس لمحفل سوريا. ولا يفوت زيدان أن يشير إلى فضل الماسونيين على مسيحيي الشرق حينما تدخل الأمير عبد القادر إلى انقاذهم من المذابح.

يصف البعض الماسونية بأنها القرد الذي كان يحمله الاستعمار على ظهره في طريقة للشرق. وهكذا، بينما كانت الآلة الحربية الأوروبية، تعمل على حصار جيش محمد علي، وتقييد حدود الدولة العثمانية، كانت المحافل الماسونية تعمل على تحقيق نوع آخر من التواصل مع النخب الحاكمة لتلك الدول وخلق روابط ماسونية الطابع، تتجاوز في قوتها الروابط الأخرى، على أمل تحقيق مجتمع مستنير يجمع الشرق والغرب، أو بمعنى آخر لتركيب شكل من أشكال السيادة الاستعمارية الثقافية من خلال الهيمنة الفكرية والثقافية على نخب تلك الشعوب.

في القرن التاسع العشر، القرن الذهبي للماسونية الرمزية، استفادت الماسونية من الأساطيل التجارية والحربية الأوروبية، التي كانت تتصارع على خريطة العالم، وتمكنت من الانتشار عالمياً بفضلها. لكن حكاية صغيرة من ذاك الزمن، تكشف لنا أن تأثير الماسونية لم يكن في اتجاه واحد من الغرب إلى الشرقِ، بل أحياناً في الاتجاه العكسي.

صموئيل حنس، قبطي مصري وطني –هكذا يصفه زيدان، كان على ما يبدو أحد معلمي القبط، وانضم إلى "محفل ايزيس" الذي أسسه الفرنسيون تحت ظل بونابرت. وحينما غادر الفرنسيون في العام 1801، رفض أن يذهب معهم مثل بعض القبط الذين تعاونوا مع الفرنسيين. مكث صموئيل الوطني في الإسكندرية وعمل في التجارة والترجمة والمكاتبات التجارية. لكن شغفه بالماسونية ظل داخل قلبه ناراً لا تنطفئ. حتى كان العام 1814، فترك زوجته وأولاده وحياته في مصر، وسافر إلى فرنسا بحثاً عن محفل ماسوني يقبل به عضواً. ولما فشل في نيل عضوية المحافل الماسونية الفرنسية، أنشأ في "مونت أمبو" محفل "تلامذة ممفيس" بمساعدة الأخ جبرائيل متى مركونيس، والبارون دوماس والماركيز دي لاروك. وفي خلال سنوات قليلة، جذب هذا المحفل آلاف المنتمين، وأنشأ عشرات المحافل الفرعية، وبعد عشر سنوات، أصبح "محفل ممفيس" واحداً من أهم المحافل الماسونية في العالم.

في عهد الخديوي اسماعيل، عمل الماسونيون في مصر بشكل علني ورسمي، وكانت فروعهم تنتشر في طول مصر وعرضها، وكانت لديهم عشرات الجمعيات الخيرية، وأنشأوا دوراً للأيتام ودعموا إنشاء مرفق الإسعاف المصري، وأصدروا الجرائد والمجلات العربية وضموا في عضويتهم عشرات النخب المصرية والفنية والأدبية، وكانوا يقيمون طقوسهم الدينية في المعابد الفرعونية وبالقرب من الأهرامات، ويؤمنون بأن منشأ الماسونية هم كهنة مصر القديمة، ويثقون في قدرة الرموز المصرية القديمة على الكشف والمدد.

ظل "محفل ممفيس" الذي أسسه مصري قبطي مهاجر، يعمل في مصر بشكل علني حتى العام 1964، حينما حل عبد الناصر كل المحافل الماسونية. لكن المحافل العلنية العاملة على طريقة وتقاليد ممفيس المصرية القديمة، ما زالت منتشرة في فرنسا والكونغو. وما زال الأعضاء النافذون يحجون إلى "معبد فيلة" في الأقصر أو إلى الأهرامات، حيث يقيمون اجتماعاتهم التذكارية وطقوسهم الصوفية. وفي شعار "محفل ممفيس"، حيث الرموز الماسونية المعتادة، من الأفعى التي تأكل ذيلها، ومسطرة الهندسة، والبرغل المفتوح(البيكار)، نجد شعاراً مصرياً فريداً وهو بيضة شم النسيم، الأيقونة البصرية الأهم لمحفل ممفيس، إذ ترمز البيضة إلى الخصوبة وصيرورة تجدد الحياة. بيضة بيضاء، تحتوي كل الرموز الماسونية الحديثة، ويحملها جناحان. بيضة مصرية مقدسة مجنحة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها